أحكام الفقه الجنائي في المذهب المالكي
جريدة طنجة – عمر بن محمد قرباش
الأربعاء 04 فبراير 2015 – 17:47:48
المبحث الأول : التعريف بأهم المصطلحات
المطلب الأول : مفهوم الفقه والجناية والجريمة والعقوبة لغة و اصطلاحا
الفرع الأول : مفهوم الفقه :
أ ـ تعريف الفقه لغة :
الفقه من فقه يفقه فقها فهو فقيه قال ابن فارس : الفاء و الهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء و العلم به . وهو ثلاثي ، فقه بفتح القاف ، وفقه بكسر القاف ، وفقه بضم القاف ، بالكسر يأتي على معنى الفهم ، ففقه إذا فهم ، وبالضم فقه إذا صار الفقه له سجية ، أما فقه فأول الإدراك والعلم .
و الفقه في اللغة يطلق على أربعة معان :
ـ الإطلاق الأول : مطلق الفهم ، تقول العرب : أوتي فلان فقها ، أي فهما . وفي القرأن ( واحلل عقدة من لساني يفقه قولي ) . ومن القرأن بهذا المعنى قوله تعالى ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ). وفي الحديث دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن عباس رضي الله عنهما : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) وهذا الإطلاق اختاره الباجي و الآمدي و علي بن عقيل و الشوكاني .
ـ الإطلاق الثاني : على فهم الأشياء الدقيقة خاصة : فقولهم فهمت معنى كلامك أي ما دق وخفي على العامة ، ولذلك لا يقال : فقهت أن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا ، وأن الماء سائل وأن التراب يابس .
وفي القرأن ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ) . وفي الحديث : ( من يريد الله به خيرا يفقهه في الدين ) . ومن ذلك أن سلمان ـ رضي الله عنه ـ نزل على نبطية بالعراق فقال لها : هل هنا مكان نظيف أصلي فيه ؟ فقالت له : طهر قلبك وصل حيث شئت ، فقال سلمان فقهت ، أي فهمت كلامها وفطنت للحق و المعنى الذي أرادت .
ـ الإطلاق الثالث : على العلم ، فالعرب حين تقول : فقيه العرب ، يريدون عالمها ، وفي القرأن ( و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) أي ليكونوا علماء ، قال الطبري : يتعلمون ما أنزل الله على نبيه ، و قال ابن كثير : ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم و ليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم . وهذا اختيار ابن فارس و سيبويه من أهل اللغة .
ـ والإطلاق الرابع : على فهم غرض المتكلم من كلامه ، و قد قال به أبو الحسين البصري و الإمام الرازي رحمهم الله تعالى ، فكل المعاني والإطلاقات دائرة على الفهم و العلم .
ب : تعريف الفقه في الاصطلاح :
هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية ، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية . وهذا ما ذهب إليه السبكي في جمع الجوام و نظمه محمد الأمين المرابط في نظمه المسمى بمراقي السعود :
الفقه هو العلم بالأحكام بالشرع و الفعل نماها النامي
أدلة التفصيل منها مكتسب و العلم بالصلاح فيما قد ذهب
قال عبد الله الشنقيطي في شرحه نشر البنود : ” و الفقه اصطلاحا هو العلم بجميع الأحكام الشرعية المكتسب من الأدلة التفصيلية و المراد بالأحكام النسب التامة التي هي ثبوت أمر لآخر إيجابا أو سلبا احترازا عن العلم بالذوات و الصفات و الأفعال “. وقد قسم محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي أطوار الفقه إلى أربعة أطوار :
الأول : طور طفولة الفقه وهو من أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته.
الثاني : سماه طور الشباب و هو زمن الخلفاء الراشدين إلى أخر القرن الثاني .
الثالث : سماه طور الكهولة إلى أخر القرن الرابع .
الرابع : سماه طور الشيخوخة و الهرم و هو ما بعد القرن الرابع إلى زمانه مبينا الأسباب الموجبة لتلك التطورات ، مقدما أمام كل قسم ملخص التاريخ السياسي لتلك المدة في الأمم الإسلامية بالإجمال .
و قد علق على هذا التقسيم العلامة عبد الله بن بيه بقوله ( هذا كلامه في مقدمته و هو كلام قد يكون مقبولا لولا وصفه لطور النبي صلى الله عليه وسلم بطور الطفولة ، فهو خطأ في العبارة و غلط في المضمون ، فلو أطلق عليه طور التأسيس و الكمال لكان أولى و أحق ).
الفرع الثاني : مفهوم الجناية
أ ـ تعريف الجناية لغة :
الجناية : الذنب و الجرم و ما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا والآخرة ، و المعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه و أباعده ، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الآخر لقوله تعالى : ( و لا تزر وازرة وزر أخرى ).
و جنيت الثمرة أجنيها جني و اجتنيتها بمعنى ، قال ابن سيدة : جنى الثمرة و نحوها و تجناها كل ذلك تناولها من شجرتها .
و الجني : الثمر المجتني مادام طريا . و في التنزيل العزيز ( تساقط عليك رطبا جنيا ) .
ب ـ تعريف الجناية اصطلاحا :
لقد درج فقهاء المالكية على الاعتناء بموضوع الجناية باعتبارها قديمة قدم البشرية فكانت موضع اهتمامهم ، و نتيجة لذلك تعددت اصطلاحاتهم لها وسنوردها كالآتي :
الجناية لها معنيان / معنى عام و معنى خاص .
1 ـ المعنى العام : فقهاء المالكية يقصدون بالجناية في معناها العام : الاعتداء على النفوس و الأبدان و الفروج و الأعراض . وهذا ما أورده ابن فرحون في كتابه التبصرة الفصل العاشر في الجنايات حيث قال { وهي الجناية على النفس ، و الجناية على العقل ، و الجناية على المال ، و الجناية على النسب ، والجناية على العرض ، وجناية المحاربين ، والجناية في الأديان ، ويندرج في ذلك حكم الخوارج ، والردة ، وحكم من سب الله تعالى ، أو الملائكة ، أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو الصحابة ، وحكم الساحر ، وحكم العائن . } .
و أطلق ابن رشد لفظ الجناية على جرائم الحدود و القصاص . و قد زاد ابن جزي المحظورات الأخرى الموجبة للعقوبة و جعلها في ثلاثة عشر جناية و هي : القتل و الجرح ، و الزنا ، و القذف ، وشرب الخمر ، و السرقة ، و البغي ، و الحرابة ، و الردة ، و الزندقة ، وسب الله والملائكة ، وعمل السحر ، وترك الصلاة و الصيام .
فالجناية بمعناها العام تشمل كل الأفعال المحرمة شرعا ، و التي رتبت عليها عقوبات تختلف حسب نوعية الجناية .
وبالوقوف على المعنى اللغوي والاصطلاحي العام للجناية تبين أنهما مترادفان ، فالذنب و الجرم يمتدان ليشملا كل فعل محظور يترتب على مقترفه جزاء معينا .
2 ـ المعنى الخاص : و هو إطلاق لفظ الجناية على الاعتداء الواقع على نفس الإنسان أو أحد أعضائه و هو القتل و الجرح و الضرب . فقد عرف ابن عرفة المالكي الجناية في حدوده بقوله ” فعل هو بحيث يوجب عقوبة فاعله بحد أو قتل أو قطع أو نفي “.
و عرفها العدوي بقوله :” هي إتلاف مكلف غير حربي نفس أو بدن إنسان معصوم أو عضوه أو اتصالا بجسمه أو معنى قائما به عمدا أو خطأ بتحقيق أو تهمة ” .

أما وهبة الزحيلي فعرفها بقوله : هو إطلاق الجناية على الاعتداء الواقع على نفس الإنسان أو أعضائه ، و هو القتل و الجرح و الضرب .
إذن نلاحظ أن التعريف الخاص بالجناية غير مرادف للتعريف اللغوي لها ، بل إن هذا الأخير أعم و أشمل باعتبار أن التعريف الخاص يشكل نوعا من أنواع الجرم و الاعتداء الذي يدخل في إطار التعريف اللغوي .
يتبع