اشكون الحمار(*)
كان التاجر غنيًا جَشعًا و بَخيلًا لدَرجة لاتُصَدّق..يـَروي أهل القرية أنه ورث البخل عن والده،الذي لم يرسله إلى الجامع ليتعلم حين كان صغيرا ليوفرنفقة تعليمه.
وحين مات الأب ورث الإبن ثروته و صفاته،وكان يقرض الفلاحين ويسترد دينه مُضاعفا منهم،وعمل في تجارة الحبوب،وعرف كيف يضاعف أمواله،فزادت ثروته مع الأيام وتزوج،لكنه لم يرزق بأولاد.مضت سنوات،واقترب هووزوجته من الشيخوخة،لكنه لم يكف عن الجشع مع زيادة ثروته،وظل بخيلا تضرب الأمثال ببخله.
وفي يوم جاء إليه أحد الفلاحين،كان قد أخذ منه كيسين من الحبوب ليردها له بعد أشهر قليلة ثلاثــة أكياس،وكان العام قحطا والمحصول ضعيفا،وأراد الفلاح أن يعطي للتاجر كيسين ويبقى الكيس الثالث للعام المقبل،فلم يقبل التاجر،ونهرالفلاح وسبه وهدده بالشكوى لحاكم القرية”القايد”ولم تجد توسلات الفلاح،وانصرف حزينا،ثم ذهب إلى فقيه الجامع الذي يعلم الصبية القراءة والكتابة،فحكى له قصته،قال الفقيه: “مسكين أنت يابني،فهذا الرجل بخيل وجشع،وإنني لأكره أن أذهب إليه لأرجوه،لكن من أجلك ومن أجل اولادك سأذهب إليه في الصباح”؛سكت الفقيه ثم هتف فجأة: “إنه لأمر عجيب،فقد لاحظت خلال الثلاثة أيام الماضي أنه يجيء ويقف خلف النافذة ويستمع إلي ألقي الدرس على الصبية”؛ شكر الفلاح الفقير و انْصَرَف .

وكما قال الفقيه،كان التاجر يجيء في الأيام السابقة ويقف وراء النافذة ويستمع إلى كلام الفقيه وهو يلقي الدروس على الصبية..وكان هناك سبب،فقد حدث منذ ثلاثة أيام أن سمع التاجرأثناء سيره في طريق عودته إلى داره شيئا من كلام الفقيه أثار انتباهه؛ فالفقيه في ذلك اليوم كان قد أتعبه الصغار،وكما يفعل كل معلمي الصبية إن ثارت أعصابهم،كان الفقيه ينهرالصبية ويسبهم قائلا : “آه منكم ياشياطين،كم أتعب معكم،يرسلكم أهلكم إلي حميرا وأظل أؤدبكم وأعلمكم وأربيكم حتى تكبروا وتفلحوا،فيصبح منكم التاجر والفقيه والقاضي،في البداية تأتون إلي حميرا،وأنا أتعب وأنتم لاتقدرون…”ولما كان التاجرجاهلا رغم ثرائه…استرعى انتباهه قول الفقيه…عندئذ ظن أن الفقيه يقدر أن يحول الحمار إلى آدمي،فأسرع إلى زوجته وأخبرها وهو فرحان بما سمع،وقال لها بأنه سيختار أحسن حمار عنده ويأخذه إلى الفقيه ليحوله إلى بني آدم ويصبح بمثابة ابنه لأنه ليس لديه أولاد.
ذهب التاجر مع حماره وطرق دار الفقيه في الليل؛فرح الفقيه لأنه وجدها فرصة ليرجوه كي يؤجل دين الفلاح،لكن التاجر لم يدع له فرصة للكلام،وقال له منفعلا: “لقد سمعتك تقول للصبية أنهم يأتون إليك حميرا وأنت تتعب معهم حتى يصبحوا تجارا مثلي،وأنا ليس لدي أولاد،أرجوك علم حماري هذا،وسأعطيك ماتطلب”.لم يصدق الفقيه ماسمع وكتم ضحكته،ثم طلب من التاجر أن يمهل الفلاح لتسديد دينه،فلم يوافق التاجروغضب واتهم الفلاح بالطمع والخبث،ورجا الفقيه أن لايتكلم في الموضوع،لأن هناك ماهوأهم …حيث عاد إلى حكاية الحمار،عندئذ قال له الفقيه: “إن الأمر يحتاج إلى وقت،وطلب منه كيسا من القمح،ففرح التاجر وأحضربسرعة كيسا من القمح وسأله ” متى يصير الحمار آدميا؟” فرد الفقيه :”بعد سنة”؛جاء الفلاح عند الفقيه فأعطاه الكيس ثم أخده الفلاح ورده إلى التاجر.
وبعد أن مضى عام جاء التاجر وطرق باب الفقيه الذي لم يكن موجودا، فاستقبله خادمه، وكان يعرف القصة ولا يحب التاجر لجشعه. وسأل التاجر عن الفقيه، فأخبره الخادم بغيابه، فسأل عن ابنه فكتم الخادم ضحكاته وأجابه ساخرا: ” آه تقصد سي بوعزة، لقد صار الحمار بني آدم وسمى نفسه بوعزة”.

فهتف التاجر فرحــًا : ” وأين هو، أين هو ؟ ” ،فاستطرد الخادم: ” الحق لقد أصبح شابا ذكيا، ولم يرض أن يبقى هنا في هذه القرية الصغيرة، وقد رحل إلى مدينة الصويرة، وفتح هناك حانوتا في السوق وأصبح تاجرا مشهورا، اسأل أي شخص في الصويرة عن بوعزة تاجر الصوف، يعرفه “؛ فازداد انفعال التاجر من شدة الفرح وهتف: ” وكيف تتركونه يرحل دون إذني “؛ فأجاب الخادم” لقد حاولنا منعه لكنه لم يقبل “، فقال التاجر: “سأسافر في الحال إلى الصويرة لأحضره “. فقال الخادم في دهاء، ” لكنني أخاف أن لا يعرفك، على أية حال خذ معك المخلاة، (العلافة)، إنه كان يأكل منها، وسيعرفها بالطبع، لكن عليك أن تحركها أمامه مرات حتى يتذكرك “. وكان هذا إمعانا في السخرية.
فانصرف التاجر مسرعا وجهز نفسه للرحيل إلى الصويرة، وصلها بعد أيام، وكان الخادم يعرف تاجرا مشهورا يبيع الصوف في الصويرة، اسمه بوعزة، لذلك عندما سأل التاجر عن بوعزة تاجر الصوف أرشدوه إليه، فاقترب من الحانوت على مهل، وكاد قلبه أن يتوقف من شدة الانفعال، فقد كان بوعزة يبيع الصوف وهو رجل في مقتبل العمر، جميل الشكل، مفتول العضلات، ووقف التاجر يتأمل ابنه المزعوم في فرحة وسعادة، وقد أخفى المخلاة وراء ظهره.
ثم اقترب التاجر من بوعزة ببطء وأظهر له المخلاة وقد بسط ذراعيه وأمسك بالمخلاة، وقربها منه، فظن بوعزة أنه أحد الزبائن فسأله عن حاجته فلم يجب التاجر وهز المخلاة قليلا أمام بوعزة، فسأله مرة أخرى إن كان يريد شراء شيء من الصوف، فابتسم التاجر وهز المخلاة مرة أخرى. عندئذ هتف به بوعزة ” ماذا تريد أيها الرجل ؟” فابتسم التاجر وأجاب : ” ألا تعرفني يا بني ؟” فهز التاجر رأسه وبدأ الغضب يتملكه وسأله في غلظة: ” ماذا تريد أيها الرجل؟ أبعد هذه المخلاة عني يا أحمق “. فمضى التاجر يهز المخلاة ويبتعد ويقترب وهو يلوح بالمخلاة ويقربها من بوعزة، فغضب بوعزة ونهره، فصاح التاجر: ” ألا تعرفني يا حماري أنا أبوك ؟”، وأقبل بعض الزبائن والجيران، وحين كرر التاجر حركاته، أمسك به بوعزة وقال له: ” لاشك أنك رجل مجنون “، فغضب التاجر وصاح به: ” أنا مجنون، ألست أباك يا حمار؟ “، عندئذ ضربه التاجر، واجتمع الناس، ولولا تدخلهم لساءت العاقبة.
ورجع التاجر غاضبا إلى قريته وذهب إلى الفقيه، وحين رآه هتف به مستنجدا: “سيدي الفقيه ،لقد ضربني ابني الحمار العاق، وكل ما أريده منك الآن أن ترجعه حمارا كما كان، وأنا على استعداد أن أدفع لك ما تطلب “.
فضحك الفقيه، ودخل إلى ساحة الدار، وعاد ومعه الحمار، وما أن رآه التاجر حتى انهال عليه ضربا وهو يقول : “ادعيت أنك لا تعرفني وسببتني وضربتني، خذ، خذ “ثم قاده إلى دارهِ .
ـــــــــــــــ
(*) هذه القصة كانت موضوع تمثيلية – أعد لها السيناريووالحوارالمخرج شكري -قدمتهاالتلفزة المغربية سنة 1971