موْلـدُ حَبيب الْحَقِّ .. البشير الّـنذيـر صلوات رَبـّي وسَلامهُ عَلَيْهِ
لقد أطَلَ عليْنـا شهرُ ربيع الأوّل الّــذي وُلد فيهِ خَيْر البريّــة و سيّد البشَريّة مُحمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي يوم الاثنين الموافق الثاني عشر من هذا الشهر ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعن أبي قتادة الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن صوم الاثنين فقال : ” فيه ولدت ، وفيه أنزل علي ” في ذلك اليوم الأغر ازدانت الدنيا وأشرق الكون بميلاد خير مولود ، ليكون رحمة للعالمين ، ومنارا نهتدي بهديه ، وسراجا نقتفي أثره ، ومنهاجا نتبع فيه رسالته .
يقول البُوصَيْري رَحِمَهُ الله في بُردَتهِ :
ليلـةُ المـولد الـذي كانَ للـــدِّين /// سُــــــرور بيــومـــه و ازدِهَـــــاء
وتَـوالت بُشْرى الهواتف أن قد /// وُلدَ المُصطفى وحَق الهَناء
فهي ذِكْرى نَفـرح فيها بميلاد سيّد الكـائنـات ، ونسعد بها بسَماع سيرته العَطِـرَة ، ونحمدُ الله تعـالـى على أن بعثه فينـَا ، وجَعلنا من أتباعهِ و أمته ، يقول تعالى ” قـُل بفَضْلِ الله و برَحْمَتهِ فبـذلك فليفـرحــوا هو خير مما يجمعون ” ، وهي مناسبة لتكون حافزا لنا على أن نحقق في أنفسنا معنى الاتباع ، وليكون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال رب العزة : ” لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ” .
ذكرى نستلهم منها مَعـالي الأخــلاق و مَكـارمها ، ودقـائــق الأحْكــام و جليلها ، فقد زَكّـَى الله عَقل رسُولهِ فقــالَ : ” ما ضل صاحبكم وما غوى ” ، وزكى لسانه فقال : ” وما ينطق عن الهوى ” ، و زكىَّ شرعهُ فقــالَ : ” إنْ هُوَ إلاّ وحي يُـوحَى ” ، وزكى فُــؤاده فقال : ” ما كذب الفؤاد ما رأى ” ، وزكى بصره فقال : ” مازاغ البصر وما طغى ” ، وزكاه كله فقال : وإنك لعلى خلق عظيم : ، وحين سئلت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت : كَـانَ خُلقهُ القُـرآن .
فَحقيقة الاحْتفــال بيــوم مولدهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو معـرفــة شمائلهِ وفَضائله ، ثم التحلي بها ، والاقتداء بها ، فقد بين الرسول أن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا ، وأن أكملهم إيمانا أحسنهم خلقا ، وأن من أحب العباد إلى خلق الله أحسنهم خلقا ، وأن أقرب المؤمنين مجلسا منهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم القيامة أحسنهم خلقا .
وصدقَ الشاعرُ حيثُ قـالَ :
فـأخلاق الرّسُول لنا كتاب /// وجدنا فيه أقصى مُبتغانا
وعـزّتنــا بغَيـْـر الـدّيـــن ذُل /// وقدوتنا شمائل مُصطفانا
فالاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف يعني الامتثال والاقتداء ، والطاعة والاتباع يقول تعالى في مُحكم كتابه ” فإن لم يستجيبوا لكَ فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ” ، هناك خَطان لا ثالث لهما ، إما أن نستجيب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنحكم سنته ومنهجه في حياتنا ، أو أننا بنص الآية الكريمة نتبع هوانا ، وفي هذا المسلك يقول عليه السلام :” كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ، قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ” فسيد الخلق ، وخليل الحق ، الذي بلغ سدرة المنتهى ، فهو في مقام لا يرفعه مديحنا ، ولا يضعه احتفالنا ، ونحن في حال لا نتبع سنته ونسلك طريقه ، ونمتثل أوامره ، ونجتنب نواهيه لأن الله عز وجل يقول : ” وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب ” ، هذا الموقف العملي هو الذي يرضى الله به عنا ويرفعنا به ، ونرقى باتباع سنته وتطبيق شريعته ، نرقى إذا كانت سُنته في بيوتنا وفي أعمالنا وفي أفراحنا وأحزاننا ، وفي حَلنا و تِــرحالنـا ، إذا طبقنا سنته ارتقينا وسعدنا .
فهذا هُـو الاقتداء والاتباع لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذكرى مولده وإن غاب عَنّـا اليوم شخصه الكريم ووجوده الحي الوضيء وجسده الشريف ، فهو باق محفوظ ماثل قائم ، بتوجيهاته وسلوكه ومواقفه وأفاق تربيته وجهاده وعبادته ، في البيت و المسجد والحياة ، وفي دلائله وشمائله ، كأننا نراه ونشهده ونرقبه أمامنا قائما ، وتلك هي السيرة النبوية الشريفة بشمولها وكمولها ومضامينها .
وكذلك من مظاهر الاحتفاء و الاحتفال الحق بمولد سيد الخلق ، إبــراز تعظيمه و تــوقيره و مَحبّـتهِ ، فمن حَقّهِ عليْنـــا محبته ، قال ـ صلى الله عليه وسلم : ” لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ” ، فعلامة حبه أن لا يقدم عليه أي شيء مهما كان شأنه . يقول المولى عز وجل : ” قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ” . ولنا في محبة الصحابة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوة حسنة ، فعن أنس رضي الله عنه عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول :
((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ((لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ))فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ (( الْآنَ يَــا عُمَــــرُ)) ؛ ولما سأله ابنه عن ذلك بقوله : يا أبــَت قُلت قــولتك الأولى ثم عدت فقلت قولتك الثانية فما حملك على ذلك ؟ ” خلوت بنفسي فقلت من أنفع لي يوم القيامة أنفسي أم رسول الله ؟ فوجدت أن رسول الله أنفع لي من نفسي يوم القيامة فجعلته أحب إلي من نفسي .
وهذا زيد بن الدثنة لما هم به أهل مكة ليقتلوه قال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ قال : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، قال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا .
إن محبّةَ النّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقتضي منا اتباعه في أقـواله وأفعـالـــهِ ، و تــوقيرهِ ولـُـزوم مَنهَجهْ ، فمن أحَبّ الـرّسُول الأعْظَــم و النّبـي الأكـــرم فعليه أن يقيم على حُبّـه دليــتلاً من العمل والموافقة لشرع الله ، يقول تعالى على لسان رسوله : ” إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ” ، فعلى قدر عمق حب المؤمن لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكون التعلق بذكرى مولده و التفاني في حبه والشوق إليه وخدمة رسالته ، وذلك برهان على العلاقة الوطيدة التي تربطه بحبيبه المصطفى ورسالته الخالدة ، وبالسلسلة النورانية التي أحبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مر الأيام منذ ولادته إلى أن لحقت به إلى الرفيق الأعلى .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فمن “رُزِق محبةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، استولت روحانيتُه على قلبه، فجعله إمَامَه ومعلمَه، وأستاذه وشيخه و قُدوته، كما جعل الله نبيَّه ورسوله هاديا إليه. فيطالع سيرته ومبَادئ أمره، وكيفيةَ نــزول الوَحْي عليه، ويعرفَ صفاتِه وأخلاقَه في حركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، حتى يصير كأنه معه، من بعض أصحابه” .
فمحبته صلى الله عليه وسلم تتجلى بإحياء سنته ، واتباع هَديه ، والشوق إليه ، و كثرة الصلاة عليه ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ” من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي ، يود أحدهم لو راني بأهله وماله ” .
ثم إن من أعظم ثمرات المحبة أن يحشر المحب مع من أحب ، قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله : كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم فقال عليه السلام ” المرء مع من أحب ” ، فمن أحب رسول الله حشر معه في الجنة .
فاحتفالنا وابتهاجنا بمولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتحقق بأن نملأ بمحبته قلوبنا ، وأن نربي أبناءنا على حبه و التعلق به وبأله الأطهار، وجعلهم المثل الأعلى في قلوبنا ، وأن نحذو حدوهم بالتربية و الخلق القويم .
وما أحوجنا نحن المسلمين ـ اليوم ـ إلى أن نتدبر سيرته ، وأن نعمل بهديه وسنته ، وأن نطبقها على أرض الواقع ، وخصوصا في هذا الوقت ، الذي بدأنا نسمع فيه خلال السنوات الأخيرة ، من بعض الحاقدين الذين أعمى بصيرتهم شعاع الحق الظاهر من دين الإسلام ، فذهب هؤلاء المنكوسين يفرغون حقدهم وضلالهم في الاستهزاء برسول الله كتابة ورسما وتمثيلا ، ولكن الله جعل من ذلك فرصة عظيمة للمسلمين لبيان حبهم لنبيهم ودينهم ، وشدة تمسكهم بهما ، وبذل الغالي و النفس و النفيس للذود عن حبيبهم ، وصدق الله تعالى حيث قال ” إنا كفيناك المستهزئين ” .
ويقول الشاعرُ :
ومـن تـَكُن بــَرسُول اللـّه نُصرتـهُ /// إن تَلْقَه الأسْد فِي أجَامِهَا تَجِمِ
من يَعْتَصم بكَ يَا خَيْر الوَرى شَرفًا /// اللـّه حَافـظهُ مِنْ كُـلّ مُنْتَقـِــمِ
و بعد : فهَذه لَمحات مُختطَفة وبـاقــات مُقتطَفة من سِيرة البَشير النّـذيـر والسّراج المُنير ، أبرزنـــا فيها بعض شَمائلهِ وسَجاياه للـدّلالــة على عَظَمة هذا النبي الأكرم الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا أو مدانيا .