سور المعكازين ومقهى باريس و القنصلية الفرنسية.. أماكن تؤرخ لسقوط أسوار طنجة
الذين يسمعون بـ “سور المعْكازين” في طنجة ولم يـروهُ ، أكيد أَن مُخيَلاتهم ستنتجُ صُوَرًا كَـثيرة لهـَذا المكان، وسيعتقدون أن الناس يأتون إليه خِصيصًـا لكي ينـامــوا أو يجلسوا وهم يتثاءبون.
لكن لسور المعكازين صورة مختلفة تماما، وتاريخ مغاير لا علاقة له بتصُورات النّاس و بالأفكار النَمَطية. فهذا المكان يحمل هذا الاسم من بابِ السُخرية التي كان يُمارسها أهل طنجة على الغُـربــاء، وخُصوصًا على سكان البوادي الذين كانوا يأتون إلى المدينة للتسوق والتَبضُـع، و يَعتبرهم السُكان بـدْوًا لا يَسْتحقون أكثر من السخرية، أو الشَفَقة .
قاعة انتظار
طنجة كانت في الماضي مُختفية خلف أسوارها العالية، وكانت أغلب أسواقها الأسبوعية تُقـام ليومين في الأسبوع، وخلال هذين اليومين تعرف المدينة إقبالا كبيرا من التجار والزبناء القادمين من بعيد، وهؤلاء غالبا ما يأتون في وقت مبكر في انتظار فتح السوق، وغالبا ما يختارون أمكنة عالية تخول لهم معاينة أبواب المدينة في انتظار فتحها.
المكان المسمى “سور المعكازين” يوجد في هضبة مشرفة على البحر وعلى المدينة، وأغلب التجار الذين كانوا يأتون إلى طنجة كانوا يفضلون “الرسو” في هذه الهضبة في انتظار فتح السوق، وكانت قوافل التجار تتوقف في هذا المكان، فيفضل التجار الاستراحة من وعثاء السفر، فيستلقون في أي مكان.
اسم للسخرية
كانت ساحة سور المعكازين مكانا مثاليا للاستراحة، وكانت أيضا مكانا جيدا لوقوف السيارات وقوافل البغال، وإليها يعود التجار بعد الانتهاء من يوم السوق لكي يرتاحوا وينتظروا سيارات أو دواب تعيدهم إلى قراهم. كان هذا المنظر، منظر الناس وهم يجلسون أو يتمددون في هذه الساحة، ويتكرر هذا المنظر على الأقل ليومين في الأسبوع، وعندما صارت الأسواق تكبر في المدينة، صار المنظر يتكرر كل يوم، فكان أن اختار سكان طنجة، الميالون للدعابة عندما يكون مزاجهم رائقا، اسم “سور المعكازين” على أولئك التجار النشيطين، وصار هذا الإسم يتكرر كثيرا، حتى صار على كل لسان، وهو اليوم يعتبر واحدا من أشهر الأسماء في المدينة، وفي المغرب كله.
بعد أن بدأ العمران يزحف خارج أسوار طنجة، تحولت المناطق المحيطة بساحة سور المعكازين إلى عمارات ومطاعم ومتاجر وحانات، وحتى هذه الساحة لم تسلم بدورها من زحف التقدم، لذلك تحولت إلى متاجر ومقاهي، ولم يعد القادمون إلى طنجة يجدون ذلك المكان الذي تعودوا على ممارسة “كسلهم” فيه. لكن بعد مدة من ذلك، تقرر أن تعود هذه الساحة إلى طبيعتها، وصارت مرة أخرى محجا للعابرين والزائرين، لكن ليس كما كانت في الماضي.
مع مرور الزمن تحولت هذه الساحة إلى مكان مفضل لزائري طنجة على الخصوص، فهم من خلالها يرون مشهدا لا يتكرر كثيرا، مثل هذه الجبال القريبة جدا لضفاف أوروبا التي تبدو على مرمى حجر، والميناء ببواخره الراسية والمنطلقة، والمدينة العتيقة بكل شيء فيها، والمقابر اليهودية على هضبة منسية، والطريق القديم المؤدية لمسرح سيرفانتس المنكوب.. وأشياء كثيرة أخرى. إنه المكان المطل على كل الأمكنة، والمكان الذي يجتمع فيه الناس ويتفرقون، وهو لا يزال يلعب هذا الدور إلى اليوم، حيث يتجمع فيه كثير من القادمين إلى طنجة فيجدون فيه الوسيلة المثالية لاكتشاف المدينة في أسرع وقت، يشاهدون من خلاله إسبانيا ومضيق جبل طارق، ويتأملون الميناء وما جاوره، ومنه ينطلقون إلى حيث يريدون أو يستحلون الجلوس فيه ويتثاءبون أو يرتاحون من وعثاء السفر.
في ذلك الزمن البعيد، الذي كانت فيه ساحة سور المعكازين تستقبل وتوزع، كانت الأماكن من حولها تنمو وتتطور. فعلى بعد أمتار قليلة من هذه الساحة توجد مقهى باريس، وهي واحدة من أقدم مقاهي المدينة وأكثرها رمزية، بغض النظر عن حالتها اليوم، حيث صارت تؤوي البؤس وطلاب العلاقات الرديئة.
في مقهى باريس كان يتجمع كتاب عالميون أمثال تينسي وليامز وجان جينيه وبول بولز وآخرون، ومعهم الكاتب الطنجاوي محمد شكري، الذي أرخ لهذه المقهى في كثير من كتبه، وسرد حولها الكثير من التفاصيل، وكأنه لم هناك غيرها في ذلك الزمن.
في تلك الفترة من زمن طنجة الدولية، كانت مقهى باريس بمثابة النقطة الفاصلة بين مدينتين، ما بين المدينة العتيقة، التي توجد خلف أسوار باب الفحص، وما بين المدينة الحديثة، التي كانت في طور البناء والتشييد بشوارعها الفسيحة وعماراتها ومقاهيها ومتاجرها ومطاعمها وأبناكها ومؤسساتها وقنصلياتها. الجالس في مقهى باريس في تلك الفترة، كان يمكنه أيضا أن يعاين من خلالها كل أنواع البشر، الأغنياء والفقراء، البدو والمتمدنون، المعتنقون لكل الملل والنحل، الذين ظلوا أوفياء لعاداتهم وتقاليدهم رغم خضوع المدينة للانتداب الدولي، والذين ارتموا بسرعة في أحضان ما اعتبروه حضارة وتقدما.
من أمام هذه المقهى كانت تمر أيضا سيارات حديثة يفخر بها أصحابها كما لو أنهم يمتلكون النجوم. فطنجة في تلك الفترة كانت من أوائل المدن التي توفرت على طرق معبدة لأن الحاجة إليها كانت ضرورية لكثرة السيارات التي كان يمتلكها أوروبيون أو أعيان طنجة الأغنياء.
قبالة مقهى باريس الضبط يوجد مبنى تاريخيا آخر، إنه القنصلية الفرنسية، التي تعتبر اليوم واحدة من البنايات التي دخلت تاريخ المدينة من أوسع باب. فهذه القنصلية، التي بنيت على مساحة عدة هكتارات، لا تعتبر فقط تحفة معمارية، بهندستها ومسبحها، بل أيضا تحفة طبيعية بأشجارها وأعشابها ونباتاتها، وهي في ذلك تشبه كل القنصليات ومقرات الهيآت الدبلوماسية في طنجة، وخصوصا مقرات أقوى الدول في العهد الدولي، مثل فرنسا وأمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، والتي تعتبر كلها تحفا تاريخية، ولولاها لاختنقت طنجة من سموم الإسمنت وغبار العقار وجحيم الازدحام في عهد الاستقلال.
المصدر : طنجة أنتر