ثقافة الدّيمقراطية “بيان حقيقة”
لم أصدّق العُنْوان حينَ قـرأتـهُ .
لقد كانَ مُثيرًا و مُدهشًا حَدّ الاسْتفزاز:
ثلاثة وُزَراء دُفعــة واحـدة يٌقـاضـون مُديــر “الأخبـار” .
يتعلق الأمر بالـربـاح و أوزين ومـدام الحيطي، في مِلفــات قـالـت الجريدة لإنهُ ثَبتت اختـِلالات بشأنها .
ونص عُنوان الخبر على أن رئيس الحُكومة يُحيلُ شِكايـات وزرائـهِ على وزير العــدل الذي يُحرّكها فَــوْرَ التوَصُل بهــا.
الحــدث غير مـألـــوف خــارج المغرب الذي يسعى “للتصالح مع نفسه، وذاته، وماضيه” الأليم في انتهـَاك الحُريّــات و تصفية “ المُعارضين المَـارقين“.
وحسب الجريدة، في عددها 653 يتاريخ 29 دجنبر الماضي، فإن مدير الجريدة توصّل، فعــلاً، بــاستدعــاءات للمُثول أمـامَ الأمن القَضائي في موضوع القضايا المقدمة ضـِدّه من طرفِ أعْضَــاء في الحُكومــة .
ـ وزير التجهيز الرباح، بسبب تحقيقات نشرتها الجريدة بخُصوص مَقـالات استنَدت فيها على “وثــائـق و مُعطَيات” دقيقة، بتعبير الجريدة، تكشف وجود “شُبهات في العينات التي تختَارُهــا الشركة التركية “نــورول” في إنجاز المقطع الثاني والثالث بالطريق السيار الموكول إليها إنجازه.
وزير الشباب أوزين ، الغارق في “بحر” المركب الرياضي مولاي عبد الله بالرباط و الوزيرة المكلفة بالبيئة، وكلاهما قيادان في الحَركةِ الشعبية” بسبب “كشف” الجريدة ما أسمته “شبكـات مصـالـح وعـلاقـات خـاصـة” بقطـاعِ الشباب و الرّيـاضة وبين جهـات في حِزبِ الحركة، على مُسْتَوى صَفقـات عمـوميّة .
وستَتولى الجهَـات القَضائية الكَشفَ عن صِحّـةِ مَضـامين مَقـالات ” الأخبار” من عَدمهـا، وقـوْل الكلمة الفصل بشأن هذا النـّزاع الغـَريب الّـذي يُواجـه فيرجــال الحاله ثـلاثة وُزراء في المغــرب، صحافيًـا من الصحـافـةِ المستقلة الجريئة، التي تطلع كل يوم على قـُرائها بالعـديـدِ من الفضائـحِ المنْسوبـة لــ “رجال الحال” والتي من شأنها أن تُضعـفَ ثقـَة المُواطنين في آلـوُزراء ، و هـم أشخاص عموميون، في المجتمعات المتحضرة، غالبا ما يلجــأون لتوضيـحِ الأمــور عبْــرَ “بيان حقيقة” يُفَنّــدون فيه مـا وردَ فـي المقالات الصحافية ممّا يعَتْبرونهُ مَجانبًــا للحَقيقة، ويُقدّمــون حقيقتهم، هم، للــرأي العام، لمحو كل غُمــوض أو ارتبـاك أو إبهام أو ادّعـاء مُريـبٍ.
الواضح أن المسؤولين في الحُكوماتِ المغربيّة ، لا فرقَ بينها أكانت من اليمين أومن اليسار أو من الوَسَط،، لا تتوفر على “ثقافة البيان” للر أي العام، بل “تطير” إلى المحاكم ، وغالبا ما تكون الغاية إنزال عقاب “مٌلجم” للأفــواه ومُثن عَن المواجهة، ومُحطّم للأقــلام و قـاهـر للعزائم و الهِمـَم.
وهو طبْعًـا، مَا لا يستطيعون إليهِ سَبيلاً، لأن الكلمة قــاهرة عَنيــدة، وكُلّما كــانت صادقــة ازدادت صلابة وقـُوّة على التحمُّل، فهي كـ “القصب المفكر” الذي قال عنه الفيلسوف الفرنسي ” بليز باسكال” (1623 ـ 1662) ، إنه ينحني للعاصفة حتى تمـُرّ، ثـمّ يستقيم، شامخًــا أمـــام العالم الذي تكفي نقطة مـــاء منه أو بخار لسَحقهِ، ولكن نُبله في أنه يعرف أنـه هـالـك، بينما العالم لا يستطيع أن يستوعب ذلك. وكذلك الإنسان….
حين يلتجيء مسؤول للقضاء، لـدحـضِ ادّعــاء أو افتــراء، فـإنّمــا سيقنع قــاض أو مجموعة قضاة بصواب رأيه و دُفـوعاته، ولسوف يقتصُّ بطريقة أو أخرى من الّــذي أو الذين “سرّبـــوا” أسرارًا تخصّهُ كــان يعتقد أنها في “دواليب” مُحَصّنة، ولكن صَدى المحاكم لا يتخَطّى أسْوار قُصــور العـدل لولا الصحافة، و وسائل الإعلام والنّشْر الأخرى، بينما يستطيع أولائك الذين يَشعرون بافتراء أو إهانة أو ظُلم أصابهم من الصحـافــة، أن يقنعوا ملايين المواطنين بأصالة مواقفهم و جودة تدبيرهم وسداد رأيهم، عبر بيان حقيقة، يشرحون فيه وجهات نظَرهم وصحة أقـــوالهم ضدّا على ادعاءات الصحافة “المغرضة“، “المشاغبة” “الموشوشة“….
ويبق، في النهاية، الحُكم للرـأي العــام
“بيـان حقيقـة ” أسْلـوب راقٍ و مُتحَضـر يستعمله النُبَغــاء من المَسْؤولين و النبهـاء ، فـي العـالم المُتحَضّـر، ليُبــرزوا نُبْـل أخـلاقهم وسعة صدرهـم وقُـدرتهم على مُقــارعة الحُجّـة بالحجّةِ ، في إطـَار من الثِقَـةِ فــي الآخر والاحتــرام المُتبــادل بين الصحـافـة الّتــي هي صوت الشعب ، وبين خُدام الشعب على أي مستوى كانــوا خـاصة الــوُزراء المُـؤتمنين على مصالـح الـوطَـن .
و قــد وَقفت طيلة عَمَلي بــالإعـلام أو بــالسّلْك الـدّيبلوماسي بالبُرتغــال، على حــالات كثيرة من مُــلاحقات الصحافــة لـرجــال الـدّولـة، كـانت كلها تنتهي بـ “بيان حقيقة” تـوضــح للـرأي العــام حَقيقـة المــوضوع المُثــار من طَـرفِ الإعــلام، و وجهة نَظَــر الجهات المسؤولة ، و أن تنتهـي إلــى اسْتدراج الصحــافيين إلى المَحـاكـم ، احتـرامـا لـدور الصحافة في مُــراقبة المؤسسات العمومية، واتقاء شرّ تقـاريــر المُنظّمــات الحُقـوقية و الهيئـات العــالمية المُــدافعة عن حقوق الصحافيين فيما يخص احترام الـدول لحُريّــة التعبير و حرية الــرأي و الــرأي الآخــر .
يحـدُث هـذا في البـلاد المُتحَضّرة، طبْعًــا، حيثُ إنَ للصحافة دورًا أساسيا في مُراقبةِ السُلْطة و تقديـم المَعْلومات الّتــي يطلبها الجُمهــور قصـدَ تمكينهِ من انتقـاد عَمَل السُلْطَـة في إطـار الـمجتمـع الـديمقـراطي الـّذي تَقــوم فيهِ الصحـافـة بتَحْقيـق التـواصل الحـي مع المواطنين كرقيب ناقد للقوى السياسية والسلطات التنفيذية في نطاق القانون الدولي الذي يضمن حرية الرأي والتعبير عنه من خلال مواثيق عدة، خاصة الفصل التاسع عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول حُريّـة التـّعبير و حرية تبـادُل المعلـومــات و الأفكــار و المـناقشة السياسية. فبدون الصحافة يبدو مستحيل أن تنمو ثقـافـة الـدّيمقـراطية فـي العـالـم .
و حتّــى تتمكـن الصحـافـة من القيامِ بدَوْرهـا كامــلاً كان لابد من سَنّ قــوانين وطنية ودوليا تمكن الصحافيين من الوصول إلى المعلومات. وينص الفصل 27 من الدستور المغربي على حق المواطنين في الحصول على المعلومات الموجودة في حـوزة الادارات العُمـوميّـة والمـــؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفــق العــام ، ولا يمكن تقييـد الحــق فــي المعلومة إلا بمقتضى القانون من أجل أهداف حددها الدستور و وقـّع الإجْمــاع بشأنهــا.
الــوُزراء الثلاثــة وكل وزراء الحكومة يعلمون أن الوصولَ إلى المعلومة في المغــرب ليْسَ بالسُهولة التي تتراءى من خلال النص الدستوري. بل إن الولوج إلى المعلومة يتطلب قانــونــًا لا يَـزال مشروعه طــَوْر الجـدال البرلماني ، شأنه في ذلك شأن مُدونــة الصحـافـة والنشر التي قـدم الخلفي النسخة الــرّابعة أو الخــامسة من مسودته التي طال إعدادها عشرات السنين, ويعلم الله كم سيتطلب مرورها بلجان البرلمان وجلساته العامة في الغرفتين، من سنين.
والوزراء على يقين من أن الوُصول السهل إلى المعلومات، يستطيع أن يجنب الصحافة الكثير من الأخطاء في نقل الخبر وصياغته ونشره، ـــ لأن حسن النية مبدأ قـــار في التعامُـل داخل البنـاء الإعلامي و الـدّيمقـراطي ، كمــا يمكن أن يجنب المغــرب تلـك الأخطـاء القـاتلة التــي تكــون لها، دائما، تداعيات سلبية على صورة المغرب بالخارج، فيما يتعلق بانخراط المغرب في البناء الديمقراطي المفضي إلى دولة الحق والقانون
تذكروا دائما أن أسلوب “بيان حقيقة” أفضل بكثير من محاكمة ، ولو جيّـدة، لأنهـا تترُك انطباعًـا سيّئًــا وسلبيًـا لدَى المراقبين الأجانب، عن المُمــارسة الديمقراطية بالمغـرب ومــا يــروج له مصطفى الخلفي في الداخل والخارج، من أن حرية التعبير أصبحت تمارس على الوجه الأكمل خارج كل إقــلاق أو مُضايَقـة.