المولد النبوي في أدبيات المغاربة والأندلسيين
يُعَدّ المولد النبوي الشريف حَدثًـا تـاريخيًا أبـَانَ في حِينه على تغيُـر مَجْرى الـتّـاريـخ على وجهِ البَسيطة ، كيف لا وقَدْ سَبقه واقترَن به وأعقبهُ من الإرهاصاتِ الكثيـر ممّـا ذكـره أصحاب السير و التـّاريخـ ، وإن كان الكثير مما نُقل لم يَصح على مَنْهَج النَقد الحديثي و الإخبـاري، فــإن الذي صح منه كاف في الدلالة على عِظم هذا اليوم باعتباره ذي دلالة كونية وتشريعية عظيمة، وحول هذه الإرهاصات يقول الدكتور “محمد السرار“:
“لقد كانت الإرهاصات المتعلقة بميلاد نبينا صلى الله عليه وسلم مناسبةً لعظمة الحدث التي به اقترنت، دالة على ما سيؤول إليه أمر هذا النبي العظيم، فإن رؤيا خروج النور، وانتشاره إرهاص عظيم مناسب لشأنه صلى الله عليه وسلم في كونه كان سببا للهداية وشيوعها، وبلوغها داني الأقطار وقصيها. والهداية كالنور يستبصر بها الطريق، ويهتدى بها إلى مسلك الحق، وتتبدد بلوامع أنوارها سجوف الضلالة الحالكة، وشأنها في المعنى كشأن الأنوار في الحس”[1].
وكان ما كان من أمر هذه الأنـْوار السُنيّة ، حيثُ انتشرَ الإسلام بـربــوع الجـزيرة العربية و خــارجها، فبلغ بلاد الهند والصين وما وراء النهر شرقا، وبلاد المغرب والأندلس غربا، وغدى أمر المسلمين ما لأحد بهم قِبَلٌ ولا طاقة. كما صوره أبو سفيان عند فتح مكة، وقال حينها للعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم: “والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيماً . قال العباس : يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال : فنعم إذن”[2].
يقول الشيخ البوطي رحمه الله: “(إنّها النُبوة) تلك هي الكلمة التي أدارتها الحكمة الإلهية على لسان العباس، حتى تصبح الردَّ الباقي إلى يوم القيامة على كل من يتوهم أو يوهم أن دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما كانت ابتغاء ملك أو زعامة، أو إحياء قومية أو عصبية، وهي كلمة جاءت عنواناً لحياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أولها إلى آخرها، فقد كانت ساعات عمره ومراحلها كلها دليلاً ناطقاً على أنه بعث لتبيلغ رسالة الله إلى الناس، لا لإشادة ملك لنفسه في الأرض”[3].
ومن ينابيع هذه النبوة اغترف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها فشربوا ونهلوا، ومن مشكاتها أخذوا القبس لينيروا سبيل العالمين كل بقدر طاقته واستعداده، وقد كان للمغاربة والأندلسيين القدح المعلى في هذا الاغتراف، وهو ما تنطق به مظاهر جلى من الاحتفال والاحتفاء، ومن هذه المظاهر نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر:
1- العناية بالتأليف في سيرته صلى الله عليه وسلم:
هذه العناية والبحث، يبرز في ذلك الكم من المصنفات والتآليف التي خلفها لنا علماء المغرب والأندلس، في التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم والحديث عن أخباره وسيرته العطرة، وفي الذود عن حياض النبوة، إمتثالا لأوامر التعزير والتعزيز والتوقير والتعظيم، وتمثلا لمعاني الأسوة والاقتداء والاتباع . وانظر في ذلك كتاب “معجم ما ألف عن رسول الله” تأليف صلاح الدين المنجد، و”المصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها” للدكتور محمد يسف، يظهر لك أن علماء الغرب الإسلامي كان لهم في هذا أوفر نصيب، حيث جمعوا فيه بين السهم والتعصيب، فكتب الله لمصنفاتهم ماشاء من القبول، كيف لا وموضوعها دلائل النبوة وخصائص وحقوق الرسول.
فهذا كتاب “الشفا في بيان حقوق المصطفى” للقاضي عياض اليحصبي السبتي أكبر مثال، والذي سارت بذكره الركبان، وملك من العلماء العقول والجنان، بما اشتمل عليه من سحر البيان في بيان حقوق المصطفى العدنان، صلَّى عليه الله ما تعاقب الملوان، وتلقاه الجميع بالقبول، وعكفوا عليه بالدرس والتدريس، وخصوه بكراسيَ وتحبيس، وألفوا في إقرائه وختمه الكراريس، واهتموا به شرحا وتحشية، وتقريظا وتوشية.
فلقد شفا كل الصدور شفاؤه = وكتابه كُبِتَت به الحسداء[4]
قال رحمه الله في مُقدّمتهِ : ” فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة والسلام، و ما يجب له من توقير و إكرام، و ما حكم من لم يوفِّ واجب عظيم ذلك القدر، أو قصَّر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر، و أن أجمع لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال، و أبينه بتنزيل صور و أمثال“[5].
2- التأليف في المولديات:
إلى جانب تآليف السيرة النبوية تفرع مظهر تأليفي آخر اصطلح عليه “بالمولديات”، وهي تآليف: “يُذكر فيها: مولده الشريف وما ظهر من الآيات عند هذا المولد، وبيان نسبه الشريف، وشمائله ومعجزاته صلى الله عليه وسلم. وهذا فرع عن السيرة وجزء منها، إلا أنه لكثرة ما وُضع فيه، وتنوع ذلك صار فنا قائما بذاته،… وقد جمع العلامة “محمد عبد الحي الكتاني” رحمه الله ما اطلع عليه مما ألف في المولد فبلغ به إلى أكثر من مائة وستين كتابا في مقال بعنوان (التآليف المولدية) نشر في ستة أعداد من المجلة الزيتونية”[6].
وقد ذكر الدكتور “محمد السرار” من تآليف المغاربة في المولد وما يتعلق به نحوا من ثلاثة وعشرين مصنفا، فلتنظر في مقاله المذكور.
3-وكمثال على ذلك نذكر
(رسالتان في السيرة النبوية والمولد النبوي) لأبي جعفر الرعيني ورفيقه ابن جابر الأندلسي، حيث رأى هذا الكتاب النور في الآونة الأخيرة، وهو أول إصدار لمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بمدينة العرائش التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط[7]، وهو عبارة عن رسالتين في السيرة النبوية والمولد الشريف لكل من أبي جعفر الرعيني :أحمد بن يوسف بن مالك الغرناطي (779هـ)، وابن جابر: محمد بن أحمد بن علي بن جابر الهواري (780هـ)، وهما الأندلسيان المشهوران بالأعمى والبصير، وهاتان الرسالتان اللتان هما اختصار لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف بمولده الشريف تخاطبان فئتين من الناس، أولاهما: عامتهم، لأسلوبهما الواضح في تناول الموضوعات، والقائم على الانتقاء من المصنفات الجامعة في السيرة النبوية. والفئة الثانية: المتخصصون، ليتمكنوا من الوقوف على نموذجين مختصرين من تآليف المغاربة في السيرة النبوية العطرة، ينتميان إلى حقبة متميزة من عطائهم العلمي والمعرفي في هذا المجال[8].
4- القصيدة المولدية:
المولديات عرفت منذ أواسط العصر المريني، وهي من أشهر أنواع الشعر الديني وأكثرها ذيوعا، وهي قصائد دينية تختص بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وتلقى في الاحتفالات العامة أو الخاصة بين أيدي السلاطين، وقد شاع هذا الاحتفال في الغرب الإسلامي وصار موسما دينيا تقام فيه المآدب والحفلات ويتلى فيها القرآن الكريم.
يقول “عبد الله بنصر علوي” في مقاله عن القصيدة المولدية بالمغرب: “وقد عرف المغرب الإسلامي قصيدة المديح النبوي، فكان المذهب الغرامي نسيجا شعريا حفل بكثير من الغراميات في ربوع الحجاز وفي الجناب النبوي، كما كانت معارضة بردة البوصيري وتخميسها، وكذا بعض الأنماط الأخرى كقصائد التوسل والتصليات والوتريات والتوجيهات، وأيضا الموشحات والملحون، مجالا فسيحا لدى الشعراء لتنويع إبداع قصيدة المديح النبوي.
لكن أكثر هذه الأنماط الإبداعية شيوعا القصيدة المولديات التي شاعت منذ أوائل المائة السابعة للهجرة وشكلت ظاهرة متميزة شكلا ومضمونا في أدب الغرب الإسلامي، ولا نكاد نعلم أول قصيدة مولدية قيلت بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف سوى ما أشار إليه الباحث العلامة محمد المنوني، فذكر “أشعار مولديات” لمحمد بن القاسم بن عمر بن عبد الله الصيرفي، و”قصائد مولديات” لأبي سالم إبراهيم بن محمد بن علي اللنتي التازي[9].
وقد تلمس “عبد الله بنصر علوي” من خلال الوقوف على هذه القصائد المولديات عدة جوانب ذكر منها:
أ- أنها أشهر القصائد الشعر الديني في المغرب وأكثرها ذيوعا.
ب- أنها قصائد دينية تختص بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.
ت- أنها قصائد مدحية تلقى بين يدي السلطان أو توجه إليه.
وتتميز القصائد المولدية بثلاثة خصائص وهي:
– التزام ذكر المولد الشريف والمديح النبوي خاصة.
– سهولة التعبير ووضوح المعنى.
– خفة أوزانها حيث تأتي- في الغالب- مجزوة أو موشحة أو ما إلى ذلك[10].
ومن أمثلة ذلك ما أنشده العلامة الأديب أبو عبد الله محمد بن أحمد أكنسوس السوسي (ت1294هـ) في قصيدة لامية في تهنئة السلطان مولاي عبد الرحمن العلوي بمناسبة المولد الشريف، مطلعها[11]:
عهدي بكم جـيرةَ الـبطحاء موصول = يا ناسـيَ العهد إن العهد مسؤولُ
يا لائمي إنَّ فرط الحب معذرتي = وفي الصـبـابة لي عِرقٌ وتأصيل
فهذه بعض من مظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي في أدبيات المغاربة والأندلسيين، نوردها للتمثيل لا الحصر فإن كل مظهر من هذه المظاهر يحتاج دراسة قائمة بذاتها، ويضاف إلى تلكم المظاهر الأدبية التصليات والنعاليات والموشحات والأزجال وغيرها من الأجناس الأدبية التي سخرت للاحتفاء بسيد البرية محمد صلى الله عليه وسلم.
الهوامش:
1. انظر مقالة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم ميلاده منبئ عن شرف ذلك اليوم، محمد السرار رئيس مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة، جريدة منبر الرابطة، العدد 15، ص20، 2011م.
2. انظر: الرحيق المختوم، للمباركفوري، (ص: 379).
3. انظر: فقه السيرة النبوية، للبوطي، (ص: 275).
4. ختم كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى” ، الحافظ ابن ناصر الدين القيسي الدمشقي، (ص : 41)
5. الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، للقاضي عياض اليحصبي السبتي، ج : 1 ص : 5/6 بتحقيق علي محمد البجاوي
6. وهي: (عدد خاص بالمولد، السنة: 1356/1937 ص 68 فما بعدها)- ( عدد ممتاز، السنة: 1356،1357/1937، ص16 فما بعدها)- ( الجزء الأول، المجلد الثاني، السنة 1356/1937، ص 20 فما بعدها) – ( الجزء الثاني، المجلد الثاني، السنة 1356/1937، ص 13 فما بعدها) – ( الجزء الثالث، المجلد الثاني، السنة 1356/1937، ص 10 فما بعدها)- ( الجزء الرابع، المجلد الثاني، السنة 1356/1937، ص 14 فما بعدها) نقلا عن مقالة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم ميلاده منبئ عن شرف ذلك اليوم، محمد السرار.
7. بتحقيق: ذ.مصطفى بن مبارك عكلي، الطبعة الأولى: 1432هـ/2011م.يقع الإصدار في كُتَيب من الحجم الصغير يتكون من 145 صفحة.
8. انظر: الموقع الإلكتروني للمركز
9. القصيدة المولدية بالمغرب، عبد الله بنصر علوي، مجلة دعوة الحق المغربية، العدد 261 ربيع 2 1407/ دجنبر 1986
10. المولديات في الأدب المغربي -1- دعوة الحق العدد: 119
11. النبوغ المغربي في الأدب العربي(857-860). وللمزيد من تلك القصائد انظر: كتاب يشتمل على مدح كتيرة للرسول صلى الله عليه وسلم ورائعة وهو ( زواهر الفكر وجواهر الفقر) لابن المرابط المرادي توفي 663 هـ.في جزئين . دراسة وتحقيق د. أحمد المصباحي . منشورات وزارة الأوقاف بالمغرب.