أهلها أحمق منها
جريدة طنجة – محمد وطاش :
السبت 31 يناير 2015 – 12:47
وبعد أيام سافر التاجر مع قافلته ليبيع ويشتري ،قاصدا بلادا بعيدة ،و خبأت الزوجة المال في قدر لتحفظه كما وعدت زوجها.مضت أسابيع،وذات يوم دق باب التاجر مَُتسَول يطلُب صدَقــة ، فَــردت عليه المرأة بالقول المعتاد: “الله يسهل“،لكن المتسول ألح كعادة المتسولين،فأجابته: “ليس عندي مال”،فرد: “اعطيني أي قدر من المال،فأنا أقاسي الجوع ،ولم آكل منذ ثلاثة أيام…”،فقالت المرأة: “ليس عندي إلا أموال دواير الزمان،و لا أستطيع أن أعطيك منها“،فضحك المتسول يائسا،ظانا أن المرأة تسخر منه،وقال: ” هل تعرفين أيتها السيدة المنعمة دوايرالزمان؟”ثم تنهد وهويردد “دواير الزمــــان..دواير الزمان”؛فــاندهشت المرأة ،وكـــانت على قدر من السذاجة،فسألته: “أتعرف أنت دواير الزمان؟”،فأجاب بمرارة ساخرا: “أعرف دواير،ومن يعرفه غيري،أنا دواير الزمان”.يقصد بقوله أنه فقير-فعل في الزمان فعله- فهتفت المرأة: “سامحني ياعمي دوايرالزمان،لم أعرفك،ولماذا لم تقل أنك دواير الزمان من أول لحظة؟لماذا لم تأت منذ أسابيع لتأخذ أموالك؟لقد تركها لك زوجي وأوصاني أن أحظها من أجلك،اصبر فسأحضرها لك”؛هرولت المرأة إلى داخل الدار..وفتح المتسول فمه من شدة الدهشة والعجب,غيرمصدق لما حدث، و قد انتـابـهُ الــدوار ،فجــــأة عادت المرأة وهي تحمل قدرا ثقيلا وأعطته له، فحمله بين يديه وانصرف إلى حال سبيله وهو يردد: “هذا رزقي وقع علي من السماء“.
مضت شهور و عاد التاجر إلى داره حزينا مهموما،فقد أصابت الخسارة تجارته،وفقد أمواله،وبعد أن حكى لزوجته ما حدث له..تنهد وقال: “الحمد لله لأنني أبقيت نصف أموالي هنا في الدار،احضري لي يازوجتي المال”،فسألته: “أي مال يازوجي العزيز؟”،فرد: “مال دواير الزمان..”،ضحكت الزوجة وقالت: “جاء دواير الزمان بعد سفرك بأسابيع وأخذ ماله”.فشهق التاجر وصرخ،وأخذ يهزها ويسألها: “أي رجل؟من هو دواير الزمان؟احكي لي ما حدث”،فروت له المرأة ما جرى لها مع ذلك المتسول بالتفصيل.

كاد الرجل أن يجن،وكان يعلم أن زوجته على قدر من الحمق،لكنه لم يكن يتصورأن تصل الأمورإلى هذا الحد،فصرخ في وجهها: “لابد أن أذهب إلى أهلك وأشكوك إليهم أيتها الحمقاء…”فقررأن يسافر إلى بلدة زوجته،ليشكو إليهم حمقها ويطلب منهم المساعدة أو يطلقها ويردوا إليه الصداق.سلك التاجر طريقه إلى بلاد زوجته،ولم تكن له دابة يركبها،فسارراجلا أيام وأسابيع حتى وصل إلى مشارف البلدة،وكانت مشاق الطريق قد غيرت هيأته،إذ اتسخ جسمه ولباسه..فحين وجد عينا من الماء تحيط بها أشجار،جلس بجانبها فخلع ثيابه وغسلها ثم علقها فوق شجرة لتجف،ونزل ليستحم في العين.وبعد برهةجاءت ثلة من نساء القرية ليملأن الأوعية بالماء من العين،فأحس الرجل بالحرج وحاول أن يتوارى عن الأنظار،لكن دون فائدة،إذ كان رأسه يظهر فوق الماء،فرأته امرأة وهتفت: “انظرن..انظرن..”،وهتفت أخرى: “باسم الله الرحمان الرحيم”،وتساءلت الثالثة هلعة : أإنسي أنت أم جني؟”،وبدأت النسوة يبسملن ويسألنه : ” إنسي أنت أم جني؟”،فاندهش التاجر وقد تحقق من حُمقهنَ،فـَردّ : “إنسي”؛ ثــم سألنـه مـرّة أخــرى: “و من أين أتيت ؟ “،فـرد سَاخِــرًا: “من الآخـــرة”؛فبكت إحداهن و ولولت ،وقالت له: “أستحلفك بالله هل قابلت ابنتي خدوج،لقد ماتت منذ أسبوع”،فأجابها: “نعم،قابلتها”؛فسألته : “وهل تريد خدوج شيئا؟إنني على استعداد أن أعطيها كل ما كانت تحبه من دمالج وعقيق ومضمة،إن كان ذلك يدخل السرور على نفسها؟”…وأجهشت امرأة اخرى بالبكاء سائلة عن أمها،وقد عرضت أن ترسل لها معه مجوهراتها، فـــأجاب التاجر كونه راجع بسرعة إلى الآخرة وأنه على استعداد كي يوصل كل شيء إلى الأموات.فرجته بعض النساء وتوسلن إليه أن يحمل أشياء كثيرة إلى من فقدن،وأخريات أوصينه بتبليغ السلام لهن،فوعدهن بالاستجابة لمطالبهن…وأوضح لهن أنه ليس لديه وقت يضيعه.فأسرعت النسوة لتحضير ما يرغبن في إرساله إلى فقيداتهن،وعدن بسرعة-ومعهن صندوق-،وما أن مضت دقائق معدودة حتى أضحى الصندوق مملوءا بالجواهروالأموال وأفخر الملابس…كل ذلك والتاجر غائص في الماء غير مصدق لما يجري أمام عينيه،وأخيرا صاح قائلا: “لقد حان ميعاد عودتي إلى الآخرة،فعليكن بالانصراف،لأنه محرم علي أن أظهر أمامكن”.لكن النساء استمررن في توصيته…وانصرفن أخيرا بعد أن أظهرالرجل غضبه.
خرج التاجر من العين و لبس ثيابه،و قد تأكد بأن أهل زوجته سيكونون أحمق منها ،و لافائدة من الكلام معهم أو الشكوى إليهم …فحمل الصندوق فوق رأسه وسار عائدا إلى بلدته.وحين عادت النسوة إلى البلدة، كانت إحداهن منفعلة،فعندما رجع زوجها إلى الدارأخبرته بما حدث،فاندهش الرجل وصاح غاضبا: “ياللحمقاء”-لقد أدرك أن النساء قد خدعن-وأسرع إلى حصانه ليلحق بالمحتال،وبينما كان التاجريسير حاملا الصندوق فوق رأسه ،رأى غبارا يتطاير من بعيد وشبح حصان يركض مقبلا نحوه،وكان إلى جانبه حقل من الذرة فتوقف ودخل الحقل فخبأ الصندوق بين أعواد الذرة،وأمسك بعض الأحجاروبدأ يرميها في اتجاه الطيور وكأنه صاحب الحقل يطارد الطيور ويبعدها عن محصوله.
واقترب الرجل راكبا حصانه ووقف على مقربة من التاجر وسأله: “هل رأيت رجلا يحمل صندوقا؟”،فأجاب التاجر: “نعم،لقد رأيت رجلا يحمل صندوقا”،فسأله : “وفي أي اتجاه سار؟”فرد التاجر: “إنه دخل حقل الذرة ومشى في هذا الاتجاه”وهو يشير إلى ناحية بعيدة من الحقل؛واستطرد قائلا: “ولماذا أنت في عجلة وتسأل عنه في لهفة؟”،فأجاب الرجل: “إنه محتال ولص أريد أن ألحق به”،فقال له التاجر: “لقد مر من هنا يحمل صندوقا ويبدو عليه التعب والإنهاك”،فقال له الرجل: “لكنني لاأستطيع أن أسيرفي حقل الذرة راكبا الحصان،فأرجوك أن تحرس الحصان حتى ألحق به وأمسكه”،فنزل من فوق الحصان وأعطى لجامه للتاجرثم جرى في اتجاه الناحية التي أشار إليها التاجر،وما أن ابتعد الرجل حتى أحضر التاجر الصندوق من بين أعواد الذرة،ووضعه فوق الحصان وركبه وجرى به؛فجأة التفت الرجل فرأى الحصان يركض وقد ركبه التاجر وأمامه الصندوق،فأخذ يصيح ويطالبه بالرجوع، لكن التاجر رد عليه من بعيد: ” اعذرني، لقد أخذت الحصان، لأنني أود أن أذهب إلى الآخرة بسرعة، لأوصل الحاجيات إلى أقاربكم الموتى “؛ فجرى الرجل بسرعة مخترقا حقل الذرة ليلحق بالتاجر؛وأثناء جريه كان يكسر أعواد الذرة، ورآه صاحب الحقل الحقيقي، فقصده مسرعا ،وقد ظن أنه أحد اللصوص أتى ليسرق محصوله، فأمسك به وانهال عليه ضربا بالعصا.
أما التاجر فقد رجع إلى زوجته راكبا حصانا، ومحملا بصندوق مليء بالجواهر والملابس، ودخل الدار وهو يردد: ” أهلها أحمق منها “.