أزمــة الأديــب العــربي اليـوم
إننا نسمع في كل مكان هذا الصوت:
– إن الأدب في أزمة، إن الأديب يعيش في أزمة، إن الناشر تحيق به أزمة.
ولابد لنا، إذا، أن نصغي إلى هذا الصوت، أن نتقرى هذا الصدى، بدون أن نتخذ موقف المتفائل بسير الأدب، ولا موقف المتشائم مما يعاني الأدب !
وفي الحق ان – هناك – أزمة، بل أزمة مخيفة. وأن أزمة الأدب تنحدر من أزمة الأديب نفسه.
فهل أدبنا يتمتع بحرية القول كاملة ؟ وهل أديبنا يطمئن في نفسه إلى أسباب حِمايتهِ ؟
ألا ليت أزمة الأديب كانت واحدة، إذا، لَهان الأمر.. ولكنها أزمة تتفرع عنها أزمات، وكل أزمة آخذة بخناق ثانية، فلا يكاد يفلت من شباك واحدة حتى تتحداه أزمة ثانية أشد وثاقا !
فما هي حقيقة هذه الأزمات ؟ وهل يمكنها أن تختلف، في جوهرها، عن أزمة العصر نفسه، الذي يكابد الآن ما لم يكابده عصر سابق ؟
أزمة الأديب، قبل كل شيء، أزمة في رزقه، ومتى اضطرب رزق الأديب، وضاقت عليه سبله، فكيف يستطيع أن يفكر بحرية وجلاء ؟
والأديب، في أزمة مع قرائه.. هؤلاء القراء الذين تنوعت أمزجتهم، وتباينت أهواؤهم، وتباعدت عقائدهم، وتنافرت مذاهبهم في الحياة، فأصبح الأديب – أمام هذه الأمزجة – موزعا، لا يدري، من يرضي، ومن يسخط. فإذا خاض في مشاكل عصره الخاصة قال بعضهم:
“إن هذا الأديب ابتعد عن محراب الأدب الصحيح الذي يتسامى عادة فوق هذه المشاكل، وقيد نفسه بمشاكل عصره الضيقة، وقضى على نفسه وأدبه بالنسبة إلى العصور الآتية”.
وإذا تنكب مشاكل عصره اتهموه بالخيانة. وتجمد الإحساس، وأطلقوا عليه “أديب البرج العاجي”.
وما أهون عليهم أن ينعتوه مرة بالأديب الرجعي، ومرة بالأديب الذاتي، ومرة بالأديب التقدمي !
وقد تعاموا عن أن الأديب هو ابن انفعالاته التي تنبع حينا من موقف ذاتي، وحينا من مشهد جماعي.. والحكم الصحيح المجرد هو أن يكون الأديب، في هذه الانفعالات، صادقا مع نفسه، ناقلا عن شعوره !
والأديب قد يتأثر لموت حيوان، كما يتأثر لمصرع إنسان، ويتألم لكارثة الغريب عنه، كما يتألم بكارثة القريب منه !
وللقراء، بعد ذلك، أمزجة خاصة، تعود تربيتها إلى تأثرها بنوع خاص من أنواع الأدب، فمنهم من تستهويه الأبعاد السياسية والاجتماعية ومنهم من تجذبه العلاقات الجنسية، ومنهم من يؤثر البقاء على قدسية القديم، ومنهم من يحبذ التمرد على المفاهيم القديمة.
وبذلك، يذهب الأديب ضحية هذه الأهواء المتباينة، فإذا كان من أصحاب رسالة خاصة، لم يهتم بكل ما يثار حوله من غبار، ولم يبال، أراج أدبه، أم لم يكتب له الرواج. وإذا كان من أصحاب الكسب سخر أدبه لممالأة الجمهور، وطلع عليه بما يؤمن ، وما لا يؤمن به.
و هُنـا تتَفجّر أزْمَـة الأديب فـي تَمزُقـه الداخلي سواء، ذلك الأديب المؤمن برسالة، والأديب الممالئ، لأن الممالأة نفسها لا تصل بصاحبها إلا إلى التمزق الداخلي الذي يجعل منه ذا شخصيتين متنافرتين، ولن يكون الضحية، في هذه المرحلة، إلا الأدب نفسه.
لأن الأديب الذي يؤمن برسالة ما، لا يهمه أن تصل به هذه الرسالة إلى تقدير القراء، أم تقطع ما بينه وبينهم، ما دام مقتنعا برسالته، راضيا عن منهجه، لأن له من ضميره ما يقنعه بأن العصر الذي ينكره اليوم سيعرفه غدا. وكم من فقاقيع كتب لها الظهور والبريق في حاضرها، ثم غابت وتوارت إلى الأبد !
بينما الأديب الذي يتخذ رسالة الأدب وسيلة إلى الظهور والربح باكتسابه القراء السذج لا يستطيع أن يحظى إلا بوردة تتفتح في الصباح، وتذبل في المساء. أما إكليل الغار الذي لا يذبل فهو نصيب الأديب الذي يؤمن برسالة، ويحيا هذه الرسالة، ويعزف عن إعجاب زائف لا يلبث أن يموت بموت المشاكل الحاضرة !
وهنالك أزمة الأديب بين الحرية والالتزام، هذه الأزمة التي يعانيها أدب العصر في كل مكان، بين الحرية التي هي أسمى ما يعتز به الإنسان، وأثمن ما تتحلى به الإنسانية، وهل كان كفاح الفكر وأرباب الفكر، في مراحل تاريخ التطور الإنساني، إلا من أجل الحفاظ على هذه الحرية ؟ وأي معنى للفكر والأدب إذا تجرد من الحرية وبين الالتزام الذي يفرض على الأديب أن يلائم عصره في حاجاته، وأن يتصدى لأبرز المشاكل، ويتحداها، ولا يفر منها باعتبار أن الأديب لم يعد يقنع “بأن يكتب كما يريد” وبأن القارئ يقرأ حين يريد. ولكي يكون كاتبا لا يكفيه أن يلاحظ الحياة بصورة مجردة، موضوعية، بدون أن يتخذ موقفا ما منها.
ومن يتأمل في هذين المذهبين المتناقضين ظاهرا، لا يجد أي تناقض في جوهرهما، لأن رسالة الأدب الحقيقي هي الانتماء إلى المُثـل العُلْيــــا التي تتمثل في الحق والخير والحرية والجمال. والأدباء الأحرار، والأدباء الملتزمون يتلاقون في هذه الغاية، وإن لم يتحالفوا على اللقاء عندها.
ولكن هذا اللقاء ينبغي أن يكون نابعا من ضمير الأديب، لا مفروضا عليه من الخارج. وان من لم تحركه مآسي عصره، كما تحركه مأساة نفسه، ومن لم تشغله مصاير الإنسانية كما يشغله مصير قومه، ومن لم يكن حريصا على نقل ما يتغلغل في أعماق ذاته، على مستوى حرصه على نقل الصور والألواح التي تترامى على مد بصره وخياله، لا يستطيع أن يكون جديرا بالرسالة التي يحملها، وإن كان هنالك فضل فإنما يعود إلى أن تتكشف النفس بحقيقتها على العالم الذي يحيا فيه !
والأديب الحق يدافع عن الحريات بدون أن يكون ملتزما ! ويكافح العبوديات تحت أي مظهر كان، بدون أن يكون ملتزما.
ولا شفاعة، هناك ولا تبرير لمن يخون قضية الإنسانية والحرية، لأن الحرية في الفن لا تتنكر للحرية في الإنسان.
وهنالك أزمة أخرى ربما كانت أخطر الأزمات التي يعانيها أديبنا.. هي أزمة تقليد الأزياء الأدبية الغربية.
ولاشك أن اتصالنا بالآداب الغربية فتح لنا آفاقا جديدة كانت مسدودة علينا، ومن ذلك أفق القصة، والقصة كانت عندنا حكاية للسرد والتسلية، فأصبحت اليوم فنا له خطره، بما له من سيطرة على النفوس والأهواء، وأفق المسرحية كانت معدومة في أدبنا، فاقتبسناها من الغرب، وحاولنا اللحاق به في المسرحية النثرية والشعرية، وأفق المقالة التي هي أقرب الفنون في وصولها إلى جمهرة الناس.
والشعر ذاته، الذي هو أغنى الفنون في أدبنا، لم يسلم من هذه الزعازع التي هبت عليه.
ولكن ما نشكوه هو أننا أسرفنا في تقليد الأزياء الغربية حتى ابتعدنا عن أزيائنا وتنكرنا لشخصيتنا، وخرجنا من جلودنا. فبتنا نتساءل – أمام الكثير من هذه النماذج الشعرية – هل نقرأ شعرا حقا ؟ أم نقرأ غمغمات مبهمة، وعلينا أن نفسرها ؟
والأنكى من ذلك كله أن أكثر ما نقرأه صور ممسوخة عن صور غربية، لها ما يبررها في أرضها ومجتمعها. ولو أن أصحابها طرحوها عن طريق الترجمة لكان ذلك أصدق في التعبير عنها.
من خلال هذه الأزمات كلها، يعيش أدبنا في فوضى، ويحيا أدباؤنا في دوامة رهيبة، تتقاذفهم ذات اليمين وذات الشمال.
ولكن، هل هذا كله يدل على حياة أو انتهاء ؟
لا نريد أن نكون متشائمين، لأن الأرض قد تتزلزل، والمدائن والقرى قد تغور، والدور قد تتهدم، ولكن كل شيء يبقى على سطحها، ليكون الحطام لبنة جديدة في بناء جديد.
وكذلك الأمر في الفكر والأدب، فإنهما يعانيان الكثير من الشدائد، ويقاسيان التحولات الكثيرة، ولكن غايتهما المجردة في رفع قيمة الإنسان تبقى أبدا، وقد يبتعدان عنها، ثم لا يلبثان أن يعودا إليها. “فأمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ”. [الرعد:17]
ولكن المهم في الأمر أن نستيقظ سريعا، وأن نصل إلى الحقيقة، بدون أن نلف وندور في المتاهات الخالية، بعيدا عنها.
والله الموفق
15/01/2015
محمد الشودري