كيف نحقق الاستقلال المادي والأيديولوجي؟
هل من المَعْقول أن نَقضي حياتنا في العملِ بدُون أن نستطيع تحقيق ما نطمحُ إليهِ ؟
هل من المعقول أن نظل مجرد مُوظفين ومُستخدمين بل قل “مُستعبدين” بأجر بخس عند الرأسماليين، نُضخم لهم ثرواتهم ونَهديهم حياتنا وشبابنا،
نكِد لأجلهم أكثر مما نكِد لأجل أنفسنا؟
أليست هذه هي “العُبُودية” في أقسى تجلياتها؟
إذن، أليس من الأجدر أن نعيش حياتنا نحن، لا أن نكون كآلة مُكتراة في يد الغير يستعبدنا ويستعملنا من أجل أن يغتني بدون تعب؟
ثم أيكون عيشنا نحن في هذه الدنيا فقط لنكوم سِخريا وفي خدمة الآخر؟
سِخريا ليس بمعنى أن يكون كل واحد منا بحاجة للآخر، بل بمعنى أن نكون طيعين في يد الآخر لمجرد أنه رب عملنا.
أسئلة من هذا القبيل تراودنا أحيانا حينما نفقد الإحساس بالزمان والمكان ونصير إلى الروتين والغفلة، عندما نجد أنفسنا ونحن في البيت نفكر في العمل الذي ينتظرنا غدا، عندما نجد أنفسنا نخاف رب العمل من أن يسخط علينا أو أن يقيلنا من عملنا إذا نحن أخطئنا، أو فقط عندما نجد أنفسنا قد قطعنا أشواطا من هذه الحياة دون أن نحقق شيئا ودون أن نصل إلى مرتبة اجتماعية أرقى، عندما نجد أننا أصبحنا كآلة تشتغل فقط من أجل أن توفر لقمة العيش وتستمرر على قيد الحياة، عندما نجد أن كل تعبنا يذهب إلى البطن، ومع ذلك هذه البطن لا تشبع.
نعيش لأي هدف إذا؟
هذا هو السؤال الجوهري الذي يجب أن ننتبه إليه ونُجيب عليه جازمين، وإلا عشنا عابثين من أجل لا شيء سوى لنَستهلك وليتم استهلاكنا.
ومع ذلك فإن هذه العبودية قد تزول بتحقيق الاستقلال المادي، لكن هل يمكن أن نحقق الاستقلال الأيديولوجي أمام تعدد وتشتت المنابع الأيديولوجية والثقافية التي تسلب وتخدر عقولنا؟
بعض الناس يغوصون في مستنقع العبث والامعنى والابتذال، يتخبطون في دائرة مفرغة ودوامة حياة روتينية حتى ينسى الواحد منا وجودَه ومغزى وجودِه ودروه الحقيقي في هذا الوجود.
إننا يا سادة بحاجة إلى منهج يساعدنا على إعمال عقلنا المتجمد، ذلك العقل الذي يلهث وراء اكتساب الماديات متناسيا اكتساب المعرفة والارتقاء بالعقل والروح لتكون للحياة معنى آخر غير مادي.
وأزعم هنا، أن كل إنسان مُستعبد ثقافيا، ماديا، وايدولوجيا من حيث لا يدري، لأن الإنسان وليد بيئته الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية والطبقية بشكل جبري وكأنه القدر.
لكن الإنسان الساعي نحو الحرية ينسلخ من كل هذه العوامل الجبرية بما فيها التقاليد البالية والموروثات الأيديولوجية ويتغير بقدْر نُضج إرادته ووعيه الذاتي.
فإذا لم تصحا أيها الإنسان من غفلتك وتدع عنك تلك العادات الاستهلاكية وتلك الإتكالية وهذا الروتين القاتل، لن تستطيع أن تصبح حرا قادرا على التمييز بين الرث والمفيد لصحتك العقلية والفكرية والروحية، وحينها ستصبح سهل الانقياد نحو الفكرة والأيديولوجية والمادة والاستهلاك ولن تستطيع النهوض من هذه الغيبوبة إن لم ترتقي بنفسك عِلميا وثقافيا وماديا واجتماعيا أو سياسيا إن صح التعبير،لأن كثيرا من الحيوانات اجتماعية أكثر من الإنسان، سياسيا بمعنى أن تكون قادرا على الانخراط داخل المجتمع وأن تتدخل فيه مؤيدا أو معارضا أو مغيرا لبنيته، وإن لم تكن واحدا من هؤلاء فاعلم أنك في جمود وغيبوبة وتنويم مغناطيسي في عالم يُدعى الغفلة بين الاستهلاك والشهوة.
وإنها لسياسة مُتعمّدة مُبرمجة عن سبق إصرار وترصد، يتم من خلالها صرف الأذهان عن التفكير في مصائر الناس والمجتمع والآخرة، يتم خلالها أيضا تغييب العقل وإفساد الأخلاق وتدنيس الروح، بوسائل خبيثة عن طريق الفنون الهابطة، وتوسيع الحريات الشخصية والجنسية، أو خلق مشاغل تافهة في الحياة الاقتصادية والأسرية والفردية، أو نشر عوامل الانحراف والمخدرات بما فيها المخدرات الدينية والفلسفية والأدبية والفنية والأفكار الأيديولوجية المُوَجهة، وإبراز فنون مريضة عن طريق السينما والملاهي الليلية والإذاعات والتليفزيونات والانترنت والمواقع الاجتماعية والموسيقى وصناعة الأزياء وآلاف أخرى متعددة من أنواع صرف الأنظار وإغلاق الأبصار وطمس الفكر وتغييب العقل.
يبقى أن نتساءل، إلى أي مدى نحتاج إلى جرأة وثورة جوهرية في عقولنا وعاداتنا لنستطيع تغيير كل القوالب الذهنية لصورنا الفكرية وعاداتنا الاستهلاكية في مجتمع تحركه البواعث المادية وتشكل فيه الفلسفة المادية تفاسيرنا لوجودنا وحيواتنا؟
كيف يكمن إعادة صياغة ذواتنا؟
على الإنسان أن يكون صاحب دور في مسيرته التاريخية ونعني بذلك أن يكون واعيا بدوره الاجتماعي.
يجب الكف عن الجري وراء الماديات الزائلة والمتع المتجددة حتى نستطيع التوقف كي نستجمع قوانا العقلية المسلوبة قصرا عن طريق مُنَوّمات عديدة، أقواها الإشهار والتشجيع المستمر على الاستهلاك، أو ما يصطلح عليه عِلميا ب”النُّورُو مَركُوتِينْ”، نتوقف لنقيم أنفسنا ونعمل على تزكيتها كي نجعلها تعود إلى طريقها الصحيح.
يجب كذلك الاستثمار في التكوين المستمر الذي يخولنا بأن نرتقي في سُلمنا المهني بالتوازي مع الارتقاء في سلمنا الاجتماعي والثقافي.
علينا أن نستمر ولا نكف عن المطالبة بالكرامة الإنسانية والحقوق الاجتماعية ولو تضامنا مع من لم يلج إليها بعد، وحتى نكون أصحاب رسالة.
وحتى لا أطيل عليكم، أترككم هنا لتُعملوا عقولكم وتحدثوا أنفسكم وتستنبطوا من عمق تفكيركم وتصوركم ما يمكن أن تضيفوه كحل للارتقاء بالعقل والكرامة الإنسانية من أجل الحصول على الاستقلال المادي والفكري الأيديولوجي معا.
وأتمنى أن لا تكونوا من أولائك الذين لم يدركوا بعد بعبوديتهم هذه، راضين بلقمة عيش مُستمرة، مُتخليين عن الكرامة والحقوق الاجتماعية والنمو الفكري السليم، أما بالنسبة إلى من لم تحدثه نفسه بمثل هذه الأسئلة، فليعلم أن الغفلة قد نالت منه، وأن عقله المفكر قد تجمد واستسلم لواقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأيديولوجي الجبري، فما عاد يرجى منه شيئا.
محمد العودي


















