مهلا، كلنا قادمون…
جريدة طنجة – جمال الدين البقالي :
الأربعاء 10 ديسمبر 2014 – 10:23:11
ذهبْنا إلى المَسْجدِ . كنتَ في المقدّمـة . حتَّى قبل الإمـام. أمّمتَ صلاتنـا . سيد الزمان و المكان أنتَ. خرَجنا في موكبِ أنت عقده . تَعــاليت، مشيتَ فوقَ الهمم. ملكتَ القلوب. وكُنــا من وراء ظهرك . دَنـوت من مَثْواك الأخير. اختفيتَ. وقفْنــا، تنــاظرنا وفي أعيننا الحَيْرة والسُؤال . من منّـا الغـائـب : أنت أم نحنُ؟ أربَكنــا السؤال، أضْنَتْنـا الحيْرَة، أرَقَــنا الشّك، أفنـانــا الحَنينُ .
نظر واقف جنبي إلى الساعة في معصمهِ . هَرْولَ من غير استِئذان. وتبعه آخر . انفضَ الجمعُ . سكتَ حَفَظة القُــرآن وطالبــوا الــزيادة في الأجر حتى يتابعــوا التّرتيـل . قلتَ لا بــأس. انتشروا، الحاج معه القرآن كله. ممتلئ بأعماله، وزاده وطريقه أنوار. ارجعوا إلى دنياكم. أسرعوا إلى قبر آخر و احذروا فقد يكون قبركم أنتم.
راحَ الجميع. وبقيتَ أنت. بقيت أنا. بيدي ريحان وجرة ماء. قطعة خبز بارد. حبات تين. رجلاي لا تحملانني. شارد أنا. أعرف أنك في بداية الطريق. أعرف أنك لن تعود. لا تخف! كلنا قادمون.
قلتَ لك صباح الخير . ضَحكت عاليًا وقلتَ إنّـهُ المساء عندنا. أردَفْتَ : ”اشْقَالــُـوا“. قلت الحمدُ لله. لا جديدَ الــيوم. قلت لي كــل ما عنْدي اليــوم جديد. قلت لك سلـم لي على الأحِبّة ، ولاتستثن أحدًا. قلتَ لي أنك مُشْتَاقٌ لعناق الوالدين ومَجالسة جعفر . قلت إنك مشتاق للسَلام على أخيكَ الوَحيد. أشرَقتْ ابتسامة على ثَغْركَـ . وهمست لــي : اليوم انفتَحت لي أبواب الـزّمان. ألتقي آدم وكل الأنبياء. أجادل الفقهاء وأسامر الشعراء. أنا اليوم طليق. أجول من بيزنطة إلى الأندلس. لا قيود بعد اليوم. سألتني عن حديقة النعناع. قلت أتلفها الثلج، لكن ستحيى من جديد. قلت لي وأنا كذلك سأحيى من جديد. ضربت لي موعدا. قلت إن كان بيدي فلن أخلفه، ولكن ما أنا منه واثق هو أننا كلنا قادمون.
انفضت الجموع. أدرت وجهي وسرت مع القطيع. التفت. رجعت ألتمس قبسا من خلوة معك. قبلت التراب المبلل بالماء عند جبينك. جثيت. رائحة التراب دثرتني. أدركت حينها أن أصل العطر تراب، وأصل الأصل ماء. تيقنت أنك أنت الماء. بعد رحيلك لمحت الجفاف في الوجوه. جفت منابع الشعر. انكسرت الروايات. انمحى حبر الجرائد وتساقطت الكلمات. بُحَّت الحناجر. جفت الأقلام وخيم السكون. قلتَ لي امتلئ بي. قلتُ لك أنت أنا إن رحلت عنهم، فأنت فيَّ باقِ. قلتَ لي لا يسكن الأصل الفرع بل إلي تعود. قلتُ لك هذا يقين. كلنا قادمون.
لامستُ التُـراب . الهدوءُ يمــلأ المكان. قلتُ إنها استراحة المُجاهد. قلت إنها قُدرة القادر الذي أنت عبده . شاء فقـدّر . نــاداك إلى جواره. قـاومتَ ما استطعت. ثمّ لبَيْتَ. سلّمتَ أمركَ و رحلتَ. تركتَ مَحْفظتك وانسحبْتَ. تركتَ الأقــلام وسجــادتك. بقيت رائحة عطرك وكلماتك وكرسيك والأواق المرتبة. تركتنا نجمع شتاتنا. رجوناك أن تبقى، ولم تأبه. قلت لنا قراري لا رجعة فيه. قلنا لن ندعك وحدك فكلنا قادمون..قادمون..قـادمون