الانتحار حـل الضعفاء
علاقة بالمواضيع السالفة التي قدمنا على هاته الصفحات، المتعلقة بالإنسان، وخاصة منها:
هل يفقد الإنسان قيمته ؟ = هل للإنسان تاريخ انتهاء الصلاحية، كي يقدم على الموت بنفسه ؟ أقف اليوم مع ظـاهرة الانْتحــار ، والتـي أخذَت سُبلَها تنتشرُ في المجتمع، وهُنا بطنجة و الـنّواحي ودعنـا أرواـحا غالية، من مختلف الفئات العُمُريـة، وعلى مستوى الجنسين، وحتـّى من الأطفال !
هُناك فئة تَرى أن الانتحار (قتل النّفس عمْدًا) هُو الحل الأخير، بمثابة الكي كـآخر عــلاج ، بعد أن يفقدوا الآمال من وجودهم، و تأبى الحياة أن تمنحهم وجهها الأبيض، المغسول بماء الحظ و السعادة، من غير أن يعترفوا أنهم لم يــوفقــوا لاختيار ذلك، والبحث عنه في آفاق أخر لم يصلوها بعد، وهنا نستنتج شيئا من مقدمات الانتحار، أنانية الفرد المنتحر، وعدم اعترافه بالتقصير في حق نفسه.
في الغالب حينما نقرأ قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) نستحضر حديث رسول الله: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة” فبهذا نكون قد وقفنا على الأرواح الثلاث التي يحل حتفها، متناسين الروح التي بين جنبينا، والتي لا يحل توقيفها بأي كان من حاملها، فلا معنى لأن نتذكر أرواح الآخرين ونحن لا نقدس روحا أمننا خالقها عليها، “وفي أنفسكم أفلا تبصرون“.
ترى هل يظن العبد أن الروح التي منحه الباري إياها، هي ملك له ؟ أم أنه موقن أنها أصعب أمانة تحملها في الوجود يجب عليه حفظها من الهلاك ورعايتها حق الرعاية ؟ ولا أظن أحدا من الصنف الأخير يقدم إلى تضييع هذه النفس بربطة عنق وسط مكتب، أو حبل، أو كهرباء … تعددت الأسباب والمآل واحد.
الانتحار ظاهرة إجرامية عالمية، في كل البلدان، الغنية كالفقيرة، والمسلمة كغير المسلمة، على تفاوت؛ باعتقاد من ( المنتحر = المجرم ) أن العدالة لا تستطيع إلحاقه بشيء بعد هذا، لغياب الروح في عالم آخر، والجسد يقدم طبقا شهيا لآلاف وملايين الديدان، متناسيا، أو متجاهلا أن هنا يكمن الفرق بين قاضي الأرض وقاضي السماء، إذ قاضي السماء تقدس اسمه، هو القاضي المطلق، وهو المالك لزمام الأمر قبل وبعد، أما قاضي الدنيا فموت الجاني يوقف كل أحكامه وعقوباته بالنسبة للظالم.
معظم الجريمة هاته هو بصف الفئة الغير المتدينة، سواء بالإسلام، بالنصرانية، أو اليهودية … والمجتمعات التي ليست لها صلة حقيقية بمالك الروح، فلماذا شقت مجتمعاتنا طريقها بل طرقها نحو النبوغ والاجتهاد في هذا الإجرام الخطير، هل لأن الفقر أخذ عشه ببيوت هؤلاء ؟ أم أن الجانب الروحي هو الذي يشهد فقرا حقيقيا ؟ !
بالنسبة لمن يرون أن الفقر والمشاكل الاجتماعية هي وراء كل ذلك، أفلم يسيروا في كتب التاريخ والسير، فينظروا كيف بدأت الأشياء العظيمة، وكيف نشأت الشخصيات الكبيرة ؟ وعلى رأسها الدين الإسلامي في شخص محمد بن عبد الله وصحبه، ممن أُشبعوا تفقيرا وتجويعا وحصارا واضطهادا … ، وأغلب العظماء الذين خلد التاريخ حياتهم بيننا، عاشوا على الفقر والإكراهات، فتحدوا كل الصعاب، حتى كانوا رجالا كالجبال، يشهد لهم القاصي والداني.
الإمام مالك رضي الله عنه طافَ به خُصومه في الأسواق تعذيبًــا وتنْكيــلاً، ولم يـزدهُ ذلك إلا ثباتًـا ، والإمــام احمد بن حنبل رضي الله عنه و محنته فيها دروس وعِبر في الثبات على المبدإ، وابن رشد، و أبو حيان التوحيدي، وسُقراط الحكيم … واجهوا من صعُوبــات الحياة مــا الله به عليم، لكنهم أدركوا قيمة ذواتهم، فثبتوا على ما رأوه انه هو الحق، وعلى رأس كل الأمر أرواحهم ونفوسهم، واليوم ! اليوم قيل في الإمام يوسف القرضاوي على لسان السيسي للإنتربول أنه قائد إرهاب، وكذلك الفقيه المقاصدي مولاي أحمد الريسوني، ولكن، هل سمنعا انتحارهم ؟ أم أنهم لا يعرفون كيف يتم ؟
المسألة لا يصح تعليلها لا بفقر ولا مشاكل، وكما تقول الحكمة الربانية المشبعة بالإيمان: المستحيل هو ما لم يكتبه الله للعبد، وليس الذي لم يتوصل العبد إليه.
Yes, I Can – نعم، أستطيع
مستحيل، لا يمكن، لا أستطيع، لستُ أهلا … كلها جمل ورسائل سلبية، يقذف بها العبد نفسه، ويضرم بها نارا تأتي على الأخضر واليابس من كل الآمال، والأحلام، ويبرز له الشيطان كل العـوائــق ، وأشواك الحياة، فــلا يرى إلا أشد المصائب في ساعته أنه أخف عليه ! ولكن ماذا لو قال العبد كل صباح في مخيلته، وخارطة يومه: نعم أستطيع، ولأي تحدي أنا جاهز، ومهما صعبت الحياة سأبقى الأشد…؟
نحن المسلمين لنا فلسفة خاصة، ولنا قــواعد و منــاهج نسير عليها، وأعظم فلسفة كتبنـاها هي أصـول الفقه، والتي حيرت الطــاعنين، وأتعبت المستشرقين، ومن أشهر وأهم مــواضيع هذه الفلسفة، موضوع الضروريات الخمس:
1- الدين
2- النفس
3- العقل
4- النسل
5- المال
بهذا التريب يلزم تقديمها على بعضها البعض، وذلك بالرجوع إلى نصوص الشريعة، فهل يعقل أن يقدم المال مثلا بمشاكله وأزماته، على ما هو أسبق منه ؟ من نسل وعقل ونفس دين ! وهل نزهد في أرواحنا في سبيل المال ؟
هي فلسفة دينية منطقية، تبرز لنا أن الإنسان أغلى من المال، وأقدر من المضايقات الاجتماعية، فالسوي يرى نفسه كذلك، ويدرك حقا انه كلما ضاقت به أرض فقد اتسعت له أخرى:
يقول ابن النحوي في منفرجته الرائعة :
وإذا ضاق الأمر فقل == اشتدي أزمة تنفرجي
ويجب أن يؤمن الفرد حقّ اليقين، أن الإنسان السوي لا يعدم الحيلة.
في مثل هاته المواضيع الإشكالية، الناس بحاجة مــاسة إلى الدّعم الــروحي، والتحاليل المنطقية العَــقْلانية، ولكن من يُفَعّــل و يُـدْعـم الفلسفة ؟
مسؤولية مكافحة الانتحار، وحماية الإنسان، ملقاة على كاهل الجميع، أبا وأما، أساتذة، إعلاما … وكل المجتمع.
حين عَجَز الإنسان عن فهم الـرّوح وتقديرها، أقبل على وأدها، والناس أعداء ما جهَلــوا.