لا استقرار من دون دولة الحق والقانون…
تضمين مشروع قانون المالية لهذا البند الخطير، أثار موجة انتقادات واسعة من مختلف الهيئات والفعاليات الحقوقية والمدنية، التي سارعت إلى دق ناقوس الخطر للتحذير من العواقب الوخيمة لهكذا قرار… الجميع استعصى عليه استيعاب ما كانت تنوي حكومة بنكيران التحضير له..
كيف لحكومة جاءت إلى السلطة عقب تظاهرات 20 فبراير المطالبة بالإصلاح، وببناء دولة الحق والقانون، حكومة تدعي صباح مساء أنها جاءت لحماية حقوق المواطنين، وحمايتهم من الظلم، – كيف لها- أن تسمح لنفسها بتمرير قرار يضع الإدارة فوق سلطة القضاء، ويمنحها الحصانة أمام أحكام تصدر باسم الملك، بصفته رئيسا للدولة والساهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات؟؟؟…
كيف قبل بنكيران على نفسه أن يضرب مبدأ سيادة القانون، وهو الذي أقسم أمام الله، وأمام الملك، وأمام الشعب المغربي، بالتقيد بأحكام الدستور…
كيف قبل الوزير الرميد أن يعبث بسلطة القضاء، وهو المناضل الحقوقي الذي قضى سنوات طويلة يناضل في سبيل ترسيخ دولة الحق والقانون؟….
نحمد لله أنه قد تم التراجع عن هاته الخطوة الخطيرة، التي كانت ستعصف بمصداقية المؤسسات وستفقد ثقة المواطن في جدواها…
قد يقول قائل بأن الأمر فيه تهويل، وأنه قد تمت معالجة الموضوع وانتهى الموضوع… الأمر ليس بهاته البساطة…
لأن مجرد التفكير في تضمين هاته المادة ينم عن توجه خطير لهاته الحكومة… توجه يطلق يد الإدارة من دون رادع يردعها… إن تمرير هاته المادة كان سيمنح الإدارة الحق في سلب حقوق الناس وهي مطمئنة على أن يد القضاء لن تطالها…
كيف سنقنع غدا المستثمرين بالقدوم إلى بلد ينص قانونه المالي على منع تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الدولة؟….
هناك الآلاف من المواطنين ممن يتعرضون بشكل يومي لنزع أملاكهم بدعوى المصلحة العامة، والمصيبة أن هناك ضحايا انتزعت منهم عقاراتهم لفائدة مؤسسات عمومية وشبه عمومية من أجل إقامة مشاريع ذات نفع عام، ثم يكتشف الجميع أن الأمر يتعلق باستثمارات عقارية تم تفويتها للخواص من أجل مراكمة الثروات، والمصيبة أن الضحايا ينتظرون التوصل بالتعويضات المستحقة لعشرات السنين من دون جدوى!…
عندما تحمل عبد الرحمان اليوسفي مسؤولية الوزارة الأولى، بصلاحيات محدودة جدا، اتخذ قرارا بمنع جميع الإدارات من القيام بنزع ملكية الخواص من دون توفرها على القيمة المالية للتعويض، كما منع أيضا على جميع المؤسسات والقطاعات الحكومية الإعلان عن أي صفقات من دون التوفر على التمويل….
لكن مباشرة بعد ذهابه عادت حليمة إلى عادتها القديمة، لكن كان القضاء يصدر أحكامه النهائية، وكان المتضررون يلجأون إلى الحجز على ميزانية الإدارات المعنية لإجبارها على الأداء…
وعوض أن يبادر بنكيران، باعتباره رئيسا للحكومة بما له من صلاحيات دستورية واسعة، إلى ترسيخ سلطة القضاء، وإلزام الجميع بالتقيد بالأحكام، يفاجئنا بسعيه لإحداث انقلاب شامل على مفهوم دولة الحق والقانون…
سينبري العديد من محبي بنكيران للدفاع عنه، والادعاء بأنه كان ضحية جهات خفية زرعت هذا البند في غفلة منه، وحين فطن للأمر سارع إلى تصحيح الأمر… وهذا حقهم، لكنه عذر أقبح من الزلة… كيف لنا أن نشعر بالاطمئنان والثقة في رئيس حكومة، يسهل تمرير القرارات من بين أنامله دون أن يتفطن لذلك؟…
يبدو أن اقتراح هاته المادة، كان اختبارا لردود الفعل… ولو لم يكن هناك أي اعتراض، لتم تمريرها بسلام…. منذ دخول بنكيران رحاب المشور السعيد، بدت مؤشرات واضحة تفيد بأن الحكومة تقود مخططا لإجهاض المكتسبات التي حققها الشعب المغربي بنضالاته على امتداد العقود الماضية… بنكيران يقود اليوم مشروعا تراجعيا ضد الدستور…
مشروع يقوم على إجبار المواطنين على أداء فاتورة الإصلاح…
مشروع يعطي الحق للإدارة باتخاذ ما تراه من قرارات تخدم أهدافها من دون تقيد بالقوانين الجاري بها والعمل، ومن دون احترام لسلطة القضاء…
هناك إحساس ما فتئ يتفاقم يوما عن يوم بفقدان الثقة في دولة الحق والقانون…
المغاربة صاروا يخشون من اعتداء الإدارة على حقوقهم، وعدم قدرة القضاء على حمايتهم من تعسفها، وإجبارها على رد الحقوق المغتصبة… أخطر ما يتهدد التماسك الاجتماعي لأي دولة من الدول هو سيادة الشعور بالاحتقار والإذلال من طرف الإدارة… لأنه حينها لا يتوقع أي كان طبيعة ردود الفعل، ولا المدى الذي يمكن أن تمتد إليه…
