“أوراق من تاريخ طنجة ” بقلم الدّكتورة “هند بن محجوب”
جريدة طنجة – هند بن محجوب (باحثة في التراث المغربي المخطوط)
الثلاثاء 25 نونبر 2014 – 12:45:59
ويعيد الاعتبار لبعض المنشآت العمرانية الضاربة جذورا في تاريخ المدينة ، ويميط اللثام عن السبات الذي لحق المعتنين بكتابة تاريخها ،فلم يعرف من المعتنين بإبراز دورها التاريخي وحضورها العلمي ، غير كتابات المستغربين الذين شحذوا الهمم للاستيلاء على خيراتها ، وطمس معالمها الدينية والحضارية ، واستيلابها لتصير لهم جنة على ضفة المتوسط ، وشرفة على كنوز القارة الافريقية .
لقد ابتهجت بمجهود الباحث المجد الأساذ رشيد العفاقي ، الذي استجاب للخصاص المهول الذي خلفته المصادر المغربية في كتابة تاريخ المدينة ، حيث بذل مجهودا مشكورا كشف فيه عن ملامح المدينة في لغة أكاديمية رصينة ، و منهجية علمية دقيقة ، محترما عمليات التوثيق المدعم بالصور والمستندات ،عارضا الوثائق الوافية الأجنبية والعربية ،ومقدما كل ما يمكنه أن يسهل عملية البحث للمهتمين بتاريخ المدينة من بعده .
والحقيقة أنه لم يكتب تاريخ للمدينة بالشكل الذي يشفي غليل الباحثين ،وإن توافد العلماء الزائرون ، و كثر المثقفون المهتمون ، وتطاول الغرباء الطامعون ،لم يكتب تاريخ موثق للمدينة إلا من طرف الباحث الفرنسي ميشو بلير في كتابه طنجة وضاحيتها بلغة فرنسية ، وخلفية استعمارية دفينة ، ولكنه محاولة أكاديمية حقيقة لا يسعنا إنكارها . عدا ذلك يمكن اعتبار محاولة الشيخ ا المؤرخ السكيرج )ت1385هـ)، أول عمل حقيقي لكتابة تاريخ لمدينة طنجة بلغة عربية ،وخلفية وطنية صادقة ، من خلال كتابه” رياض البهجة في أخبار طنجة” من ثلاثة اجزاء ، تعرض من خلالها لكل تفاصيل المدينة ، منذ فجر التاريخ الى خلافة الدولة العلوية الشريفة ، بكل ما يتعلق بها جغرافيا سكانيا مجاليا ، منوها بأهم رجالاتها وعلمائها ، غير أنه تجدر الاشارة إلى أنه قد سبق الشيخ السكيرج في كتابة تاريخ طنجة علم من أعلامها ، وعلامة من علمائها قبل ذلك بقرن ونيف من الزمن، ومن كناشته المصدر التاريخي الأهم لتاريخ المدينة على عهد الدولة العلوية ،سيستمد الشيخ السكيرج أهم مادته التاريخية .
هذا العلم المغمور الذي سجل تاريخ طنجة بعناية فائقة في كناشته ، الأثر الوحيد الذي وصلنا عنه ،هو العلامة قاضي الجماعة وإمام الزاوية الوزانية بطنجة الشيخ ابن يحيى الطنجي (ت1258هـ)،وقد حققت الكناشة موضوعا لأطروحتي لنيل دكتوراة الأداب من جامعة محمد الخامس بالرباط ، والتي ناقشتها في دجنبر سنة 2010 ، وأثناء تحقيقي للكناشة وخصوصا عند مقيداتها التاريخية ، وقفت على مجموعة من المعلومات التاريخية المحلية الاجتماعية والسياسية والثقافية الهامة التي تؤرخ لأحداث خاصة بالمدينة ومرافقها وبنيتها التحتية ، وما طرأ عليها من تعديل على عهد السلطانين المولى سليمان والمولى عبد الرحمن بن هشام ، حيث عاش الرجل زمنيهما وعاصر كليهما .خاصة وأنها الفترة التاريخية المقاربة زمنيا لبداية عهد الحماية ، وعملية تدويل المدينة، التي سترشح لأن تصير دولية بحكم مجموعة من الاعتبارات الاستعمارية آنذاك، وعلى رأسها موقعها الجغرافي الاستراتيجي الهام
. لقد عرض الكتاب في جزئه الأول بعد التقديم الأنيق الذي لا يخلو من حسرة دفينة ، تلخص دواعي التأليف وتبرر حيثياته ، تعريفا لمرفق تاريخي هام بمدينة طنجة ، لهذا أجد أن تعريف قورجة طنجة أو حصن طنجة ، أهم حصون العصر الوسيط الدفاعية في المدينة ، وتعريف أحد أهم أحياء المدينة العتيقة “جنان قبطان ” ،جاءا ترميما لذاكرة الطنجيين ، حيث أن الأجيال المتعاقبة تكاد تنسى حقيقة تاريخ هذه المدينة العتيقة ، فتوالي السنين ، وتسارع الإصلاحات والتغيرات التي تطال معالم المدينة ، تجعل بعض سكانها الأصليين يجدون بعض الصعوبة في الوقوف على حقائق ماضيها العريق، بله الزائر الجديد ، ورحم الله الدكتور عبد العزيز خلوق التمسماني الذي كافح وناضل في مجلته الطنجييون التي أصدر منها فصولا تعنى بحفظ ذاكرة المدينة وتاريخها ، ولكن المرض ولم يسعفه ليكون ثلة من الباحثين الغيورين على تاريخ المدينة ، الذي هو جزء من تاريخ المغرب الكبير .
صحيح أن الكتاب اهتم بتاريخ المدينة ، لكنه لم يهمل من ساهموا من رجالاتها ونسائها في كتابة هذا التاريخ ، أو المشاركة في الحركة العلمية والثقافية بالمدينة ، ولقد شد انتباهي وراق إعجابي بالاضافة الى هذه الوقفة التارخية العمرانية للمدينة ، هذا الاهتمام بالكشف عن دور المرأة الطنجية الحضاري الرائد في الثقافة المغربية ، ونهوضها بالحركة التعليمية والفنية والسياسية ،على غرار أخواتها في باقي المدن المغربية ، وأجد أنه نوع من إحقاق الحق ، وصورة من صور ثقاقة العرفان والتقدير لأعلام نسائية ، طبعت بصماتها بقوة في تاريخ المدينة ،إلى جانب الرجل، في احترام كامل للقيم والأعراف الدينية والاجتماعية .
وفي شأن رجالاتها خصص الباحث فصلا هاما للتعريف بأحد أعلامها العلامة ابن يحيى الطنجي (ت1258ه) ، حيث قدم الباحث له ترجمة مستوفية اعتمد في جزء أساسي منها على كناشته المخطوطة بالخزانة الملكية بالرباط ، عارضا نبذا منها .
وللاشارة فكناشة ابن يحيى الطنجي ، كانت موضوع أطروحتي تحقيقا ودراسة ، و نوقشت برحاب كلية الآداب بجامعة محمد الخامس دجنبر 2010، ونصها المحقق موجود بخزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط منذ 2010،في مجلدين ،في انتظار أن تطبع وتنشر كما وصت اللجنة العلمية المناقشة للأطروحة بالجامعة المذكورة ، وقد عرض الباحث في باب التعريف برجالات المدينة وأعلامها كذلك نصين شعريين مدحيين في حق العلامة الطنجي الشيخ محمد بن الصديق الغماري (ت 1354ه)، مصدرا ذلك بنبذة هامة حول نشأته وزاويته وآثاره العلمية ، والقصيدة الأولى للفقيه العربي بوعياد (ت1371ه) ، أما الثانية فهي للفقيه محمد فتحا بن الحاج العياشي سكيرج (ت 1324ه)
. كما اهتم الباحث بنشر وثائق تاريخية هامة تتعلق بأهم معلمة ثقافية علمية بطنجة ، مكتبة العلامة عبد الله كنون العامرة من خلال نشر وثيقة وقفية نادرة للعلامة عبد الله كنون بشأنها ، بالاضافة إلى وثيقة أخرى تتعلق بنص قانون أول جمعية بالمغرب ، وهي الجمعية الخيرية الإسلامية بطنجة .وكشف الباحث بعناية عن وثائق ونصوص تنشر لأول مرة حول مدرسة الجامع الكبير بطنجة ، وهي تذييل واستدراك للباحث على كتابه الأسبق مدرسة الجامع الكبير بطنجة الذي نشر سنة 2008.
أعتقد أن هذا العمل لبنة هامة في كتابة تاريخ المدينة ، ووثيقة غنية تغري بالقراءة والتصفح والاطلاع ، وقد ارتأيت أن أساهم بتقريظي للكتاب ، تشجيعا للباحث على مواصلة تخريج الأجزاء المتبقية منه ، وقد أهداني الباحث نسخة منه لطفا وتكرما الشهر الماضي ، وتحفيزا على قراءته من المهتمين والباحثين المتخصصين ، بالاضاقة الى عامة القراء الطنجيين لأهمية مضامينه ، وعذوبة لغته ، وسلاسة تعبيره
.